مع مجيء الحكم الجديد في السعودية استبشر السعوديون والعرب السنَّة على وجه الخصوص خيراً ، وجاءت عاصفة الحزم الجريئة لتؤكد صحة ذلك التفاؤل، فلقد كانت عاصفة الحزم إيذاناً بفتح صفحة أكثر تشدداً مع التمدد الإيراني الإجرامي في البلاد العربية .
تلقت إيران صفعة شديدة في اليمن ، وتورم خدها في سوريا ، حيث حقق الثوار السوريون انتصارات كبيرة على جنود الميليشيات الشيعية ونظام بشَّار في طول البلاد وعرضها .
بعد ذلك ، حدثت تفجيرات داعش في السعودية والكويت ، وتنادى أتباع إيران وأذنابها في الخليج صارخين بوطنية هزيلة بأن القضاء على داعش ينبغي أن يكون على رأس أولويات السياسة السعودية وليس التمدد الإيراني الذي يمكن احتوائه بالسياسة أو باللجوء للحليف الأمريكي !
وافق هذه الدعوات المأجورة إلحاحاً أمريكياً مستمراً على ضرورة إيقاف العملية العسكرية في اليمن ، وضرورة التعاون والتكاتف للقضاء على داعش وليس بشَّار .
هل وافقت السعودية على استبدال داعش ببشار ، كخطر أول ؟
لا أحد يدري . لكن التصريحات السعودية حتى ما قبل لقاء الملك سلمان مع أوباما تقول بأن لا مكان للأسد ومن تلطخت أيديهم بدماء السوريين في مستقبل سوريا ، وهو عكس ما يروجه الثلاثي الروسي المصري الإماراتي الذي يعمل بقوة على إعادة تأهيل نظام بشَّار كما نشرت بعض الصحف والتحليلات .
.........
على السعودية حين يتعلق الأمر بمصالحها أن لا تستجيب لتهويلات أحد ، فكل حليف لها له مصالح قد تتقاطع مع مصالحها وقد تتنافر ، وعليها أن لا تستمع كثيراً للأمريكان ، فالأمريكان لا تقودهم إلا مصالحهم فقط ، وهم قد تخلوا وسيتخلون عن كل حليف حين يجدون حليفاً جديداً بتكلفة أقل !
الأمريكان اليوم فزعون من فكرة أن السعوديين باتوا قادرين على أخذ زمام المبادرة بأنفسهم ، والمضي قدماً في صنع نفوذ إقليمي مؤثر ، وهو ما يرفضه الأمريكان الذين يحاولون قدر الإمكان تصعيب الأمر على السعوديين بالعمل على تحجيم تقدمهم ولجم اندفاعتهم في الملفين اليمني والسوري .
وإذا نظرت السعودية بهدوء وتروٍ إلى ما يجري على الساحة السورية والعراقية ، فستجد أن أمريكا تحاول بما أوتيت من قوة الإبقاء على التوازن الإقليمي السابق الذي يسمح لإيران بالسيطرة على العراق وسوريا ولبنان ويبقي دول الخليج تحت المظلة الأمريكية بشكل كامل ، الأمر الذي يسمح للأمريكان بابتزازها ، أعني دول الخليج ، طوال الوقت بالنفط مقابل الحماية والأمن . ولو دققنا قليلاً في معادلة المقايضة هذه ، لوجدنا أن الأمريكان يكسبون كل شيء ، فهم يكسبون النفط ، وبالمقابل يقدمون الأمن . لكنهم أذكياء في تقديمه ، فالأمريكان لا يوفرون لدول الخليج باكيج أمن كامل ، لأن هذا لن يسمح لشركات السلاح الأمريكية ببيع منتجاتها لدول الخليج ، لذا فهم يوفرون أمناً سياسياً فقط مدركين أن إيران لن تجرؤ على فعل شيء ضد دول الخليج دون موافقتها . باختصار شديد ، أمريكا تأخذ النفط ، وتأخذ المال ، وتمنع دول الخليج من بناء قوتها ، ولا تعطيها سوى وعدُ شرف مثله مثل وعد شرف الراقصة !
أمريكا تريد إبقاء الوضع على ما كان عليه قبل الربيع العربي . وحماستها للحرب على داعش ليس لأن داعش تهدد دول الخليج ، بل لأن داعش تهدد قبضة إيران وبالتالي تهدد التوازن الإقليمي الذي تعمل أمريكا على الحفاظ عليه وفق رؤيتها ومصالحها .
تعرف أمريكا جيداً أن ميليشيات الشيعة في العراق وسوريا أجبن بكثير من قوات داعش ، وأنه لولا الغطاء الجوي الأمريكي لما استطاعت قوات الحشد الشيعي التابعة لإيران دخول مدينة بيجي رغم أن قواتهم كانت تتجاوز الثلاثين ألفاً في حين أن جنود داعش لم يتجاوزوا بضعة مئات !
داعش حركة صغيرة ، وحين تتحالف السعودية وتركيا والفصائل الثورية في سوريا والعراق سيتم محوها من الخارطة في شهور قليلة دون الحاجة إلى الأمريكان . لكنهم يخطئون خطأً فادحاً إن فعلوا ذلك قبل إسقاط نظام بشَّار ومنع إيران من الاستفادة من سقوط داعش ، وذلك بسحق ميليشياتها في سوريا والعراق ولبنان واليمن .
على السعودية أن لا تنجر للدخول برياً إلى العراق أو سوريا بل أن تعمل كي يتناطح التيسان الإيراني والداعشي كي يفنيا معاً ، وأن توفر دعمها للثوار السوريين كي يسقطوا نظام بشَّار وميليشيات إيران في سوريا ، حتى إن لقي هذا الدعم معارضة أمريكية ، فالمصلحة السعودية مقدمة على ما سواها .
الغرب لا يريد حكومات سنية قوية ومدعومة شعبياً في العراق وسوريا واليمن ولبنان ، لأن ذلك لا يتقاطع مع مصالحه ، فالغرب سيدعم أعتى الديكتاتوريات كي تقمع الثورات العربية الشعبية . فهم والأمريكان يعلمون جيداً أن الشعوب السنيَّة تطالب بالحرية والاستقلال والإرادة والخروج من الوصاية الأمريكية الغربية التي أذلَّتها وركَّعتها طوال عقود طويلة .
لقد قالتها وزيرة الخارجية الأمريكية أولبرايت قبل أكثر من عقدين : سندعم كل ديكتاتور يحقق مصالحنا .
المصلحة وحماية إسرائيل مُقدَّمة لدى أمريكا والغرب المجرم على الديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة . فكل هذه مجرد شعارات داس عليها الأمريكان وحلفاؤهم الغربيين في كل مكان وطأته أقدامهم تحت سمع وبصر العالم أجمع .
لافروف قالها بصريح العبارة : السنَّة لن يحكموا سوريا ( لاحظوا أنَّه يتكلم عن السنَّة وليس عن داعش أو القاعدة أو النصرة). إنها حرب كونية معلنة من جانب الروس والإيرانيين والميليشيات التابعة لهم ، وغير معلنة بل من تحت ستار ، بالنسبة للغرب وأمريكا . كلهم يعملون وينسقون فيما بينهم لمنع قيام حكومات سنيَّة في العراق وسوريا ولبنان واليمن . والعرب السنَّة يتفرجون ، في ذات المقعد منذ ستة عقود .
أمام السعودية اليوم فرصة تاريخية ، والفرص لا تبقى لوقت طويل ، كي تقود العالم العربي والإسلامي في ظل هذه الهجمة العالمية الشرسة على بلاد العرب .
لا أحد يطالب السعودية بحرب العالم بأكمله ، فهذه دعوى مجنونة ، لكن الحزم في مواجهة إيران وميليشياتها مطلوب ، وما لم تعِ السعودية أن الاستراتيجية الأمريكية قائمة على الحفاظ على الميزان الإقليمي لصالح إيران ، فلن يتقدم النفوذ السعودي خطوة واحدة .
على السعودية أن تعمل حين يتعلق الأمر بمصالحها بعيداً عن المجال المغناطيسي الأمريكي ، فمن مصلحة السعودية الإسراع بإسقاط نظام بشَّار، وهو أمر لا يريده الأمريكان.
هل ينتظر السعوديون حتى تسيطر إيران وميلشياتها على سوريا فتغير تركيبته السكانية بالشكل الذي يسمح ببقاء بشار ممسكاً بالسلطة ويسمح لها بترسيخ أقدامها والإعلان رسمياً عن سيطرتها على العراق والشام ؟!
ليتذكر السعوديون أن أمريكا هي من سلَّم العراق لإيران كما قال الراحل سعود الفيصل رحمه الله ، فعليهم أن لا يعيدوا ارتكاب ذات الأخطاء ثم ينتظرون حصول نتائج إيجابية مغايرة !
السعودية قادرة على أن تكون دولة عظمى إذا أرادت . لديها النفط ، ولديها الغاز الطبيعي ، ولديها المال ، ولديها الحرمين الشريفين ، ولديها شعوب مسلمة تضم مليار مسلم قادرة على تحويل هذا العالم إلى جحيم حقيقي على أمريكا والغرب فيما لو أرادت السعودية .
يقال أن الفيل الضخم يستكين حين تُربط بقدمه قطعة صغيرة يربط طرفها الآخر بشجرة أو بجدار ، فيخضع لهذه القطعة ويجلس .
والسبب في سكونه وانقياده أنه اعتاد أن يقوم مروضه بربط قدمه بعد مولده ولسنوات عديدة بهذه القطعة التي كانت تمنعه من الحركة حين كان صغيراً، لكنه يظلَّ معتقداً حتى آخر يوم من حياته أنه لن يستطيع الفكاك منها ، فلا يحاول أبداً ، ولو حاول مرة لاكتشف كم هو قوي ، وكم هي قطعة قماش سخيفة وضعيفة .