كان لإيران أكثر من ثأرٍ لدى القوات الأمريكية منذ أن قدمت الـ cia (وكالة المخابرات المركزية) و dia (جهاز الإستخبارات العسكرية) المساعدة العسكرية للقوات العراقية في هجومها لتحرير شبه جزيرة الفاو بالبصرة في 17 إبريل 1988 وذلك بالتشويش الكامل على الرادارات الإيرانية وتعطيلها حيث بقيت عمياء تماماً لثلاثة أيام مما ساعد القوات العراقية على تحرير الفاو الذي تحقق بطائرات الأواكس الأمريكية التي كانت المشارك الأساسي في عملية إسترجاع الفاو وإخراج القوات الإيرانية منها مروراً بتدخل الأسطول الأمريكي في الحرب بضرب قوات البحرية الأمريكية لمنصات الصواريخ والسفن والناقلات وأرصفة شحن النفط الإيرانية وإنتهاءاً بإطلاق البحرية الأمريكية في 3 يوليو 1988 قذيفة ضربت بها طائرة ركَّاب إيرانية مدنية كانت متجهة إلى إمارة دبي وتحطمت فوق مياه الخليج وذهب ضحيتها 290 مدنياً , وعقد مجلس الأمن إجتماعاً طارئاً أصدر فيه قرار رقم 598 بوقف إطلاق النار ووافقت إيران عليه لتيقنها بإستحالة مواصلة الحرب مما جعل الخُميني يُصرِّح بأنه تجرَّع كأس السُم بعد أن تعمَّدت أمريكا إستهداف المدنيين الإيرانيين لإجباره مرغماً على الرضوخ للقرار فوضعت الحرب وقتئذٍ أوزارها
بعد عامين فوجئت إيران برسائل تقارب وغزل من الرئيس العراقي صدام حسين , ورد في تلك الرسائل أن العراق ملتزم بإتفاق الجزائر الموقع مع الشاه عام 1975 فمنحها بموجبه السيادة الكاملة على شط العرب بنفطه وملاحته ثم أرسل صدام وديعة إلى إيران وهي 125 طائرة حربية مقاتلة ومدنية متطورة , وأوكل صدام إلى سكرتيره عبد حمود التكريتي مهمة التنسيق مع الحاكم العسكري للكويت المحتلة علي حسن المجيد بإطلاق سراح قيادي حزب الله اللبناني صهر عماد مُغنيَّة المحكوم بالإعدام مصطفى بدر الدين ورفاقه المسجونين في الكويت وتسليمهم لإيران , وسعى صدام بذلك إلى كسب ود إيران من أجل الحصول على تأييدها لضم الكويت للعراق (سنكشف تفاصيل تلك الرسائل لاحقاً في القادم من أحاديثنا).
حديثنا هاهُنا عن مصطفى بدر الدين الذي كان يعمل سراً بإسم مستعار هو (إلياس صعب) , وبعد حرب الخليج الثانية وتنامي الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة تعرّف بدر الدين على أسامة بن لادن في الخرطوم بدعم من الحرس الثوري الإيراني وجناحه الأكثر تشدداً فيلق القدس للعمل المشترك ضد المواقع العسكرية الأمريكية في المنطقة ، من هناك كان التنسيق والإرتباط بين جماعة بن لادن التي تحمل شعار إخراج القوات الأمريكية من جزيرة العرب , وبين الجناح العسكري لـ(حزب الله الحجاز) الذي كان مصطفى بدر الدين على علاقة به.
في نوفمبر 1995 قامت خلية من جماعة بن لادن بتفجير مقر البعثة الأمريكية العسكرية لتدريب الحرس الوطني السعودي في حي العُليّا بالرياض وقُتل في التفجير 5 أمريكيين وكان عناصر التخطيط والتنفيذ هم رياض الهاجري ومصلح الشمراني وعبد العزيز المعثم وخالد السعيد وقُبض عليهم وأعدموا جميعاً في الرياض.
وفي 28 مارس 1996 دخل أحد أعضاء حزب الله الحجاز وإسمه فاضل العلوي بسيارة قادها من لبنان وأُوقف في معبر الحديثة الحدودي بعد العثور على متفجرات بداخل سيارته , ثم إعترف في التحقيق بأنه تسلَّمها من قائده في بيروت الذي لم يكن سوى أحمد المُغسِّل , ودلَّ المتهم على أسماء شركاءه الثلاثة وهم صالح رمضان وعلي المرهون ومصطفى المعلم وتم القبض عليهم جميعاً , ويبدو أن الخلية الرباعية لم تكن على علمٍ بهوية الهدف ونوعية العملية , وهو الأمر الذي شجَّع رئيس حزب الله الحجاز عبد الكريم الناصر وقائد الجناح العسكري للحزب أحمد المُغسِّل على إستئناف التخطيط , وأُوكلت المهمة إلى خلية أُخرى مكوَّنة من هاني الصايغ وإبراهيم اليعقوب وعلي الحوري وجعفر الشويخات ومصطفى القصاب , وفي 25 يونيو 1996 تحقق الثأر الإيراني لضحايا الطائرة التي هَوَت في مياه الخليج عندما إنفجر صهريجٌ كبير مملوء بأطنان من مادة tnt أمام مجمع أبراج الخبُر العسكري الذي يضم القوة الجوية الأمريكية فأوقع 19 أمريكياً وأُصيب 372 شخصاً , واحتفى أسامة بن لادن بالهجوم في خطابٍ مصوَّر في أفغانستان ألقى خلاله بيتاً من الشعر إذ قال مادحاً إياهم :
جيشُ الصليبِ غدا هباءاً يوم فجّرنا الخُبَر**بشبابِ إسلامٍ كُمَاةٍ لايهابون الخطر
أُلقي القبض على يوسف العييري أحد قادة القاعدة ونفى في التحقيقات علمه بالعملية وهوية منفذيها , فأسامة بن لادن كان يتكتم على تحالفاته السرية مع الإيرانيين وحلفاءهم ولم يهمس لأحد عن ذلك سوى لنائبه وساعده الأيمن – أيمن الظواهري
لجأ عبد الكريم الناصر وأحمد المُغسِّل وإبراهيم اليعقوب وعلي الحوري إلى إيران , ولجأ هاني الصايغ إلى كندا وتم القبض عليه هناك وسلمته السلطات الكندية إلى السلطات السعودية في 10 أكتوبر 1999 , وتم القبض تباعاً على عبد الله الجرَّاش وسعيد البحار وحسين آل مغيص وعبد الجليل السمين , وعُلِم مكان تواجد جعفر الشويخات في دمشق وطلبت السلطات السعودية من السلطات السورية القبض عليه فأوقفته المخابرات السورية في 19 أغسطس 1996 وسيق إلى أحد فروع التحقيق, وظهرت على المتهم جعفر الشويخات ملامح الرضا والإطمئنان من حيث أنه معتقل في دولة حليفة لإيران وحزب الله إذ كان لدى المحققين السوريين توصيات بمعاملته بإحترام وكانوا يخاطبونه بـ (السيد) جعفر ما يعني أن هناك أوامر عُليا بمعاملته معاملة خاصة فهو كان من طلاب حوزة السيدة زينب بدمشق , ووقعت الواقعة أو قُل كانت المفاجأة , فقد أُعلن عن وفاة الشويخات في المعتقل السوري بعد ثلاثة أيام , قيل أنه قضى نحبه من أثر التعذيب , ولكن السوريون أبلغوا السلطات السعودية بأنه إنتحر بعد أن علم أنه سيُسلَّم إليها , كان الخبر مفاجئاً للسعوديين والأمريكيين فهل ياتُرى قد فاجأ الإيرانيين وحلفاءهم ؟
أُقيمت مراسم تشييع جنازة جعفر شويخات بحضور وفد كبير من حزب الله اللبناني إلى مقبرة للشيعة بجوار مقام السيدة زينب, وترددت همساتٌ في الأوساط الضيقة لأجهزة المتابعة أن الشويخات تمَّت تصفيته في الفرع الأمني لأنه كان سيقود المحققين الأمريكيين إلى إيران , وهمسة أخرى تم رصدها بأن المخابرات السورية شخَّصت الشويخات إلى إيران خلسة ثم زعمت بأنه إنتحر وسارعت في إقامة مراسم تشييع وهمية دون أن تُتيح للسطات السعودية التحقق من موته , وما بين هذه الهمسة وتلك الهمسات تاهت الحقيقة , وتاه الناصر والمُغسِّل واليعقوب والحوري عن أعين الإستخبارات الأمريكية cia وعُملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي fbi , وتواترت الأخبار أنهم يمكثون في إيران , وأما مصطفى القصاب فقد كان متوارياً في الضاحية الجنوبية لبيروت وقبض عليه جهاز أمني لبناني عند ماكينة صرف آلي خارج فرع بنكي حيث كان وقوفه هناك أمام كاميرا المراقبة وربما إستعماله لبطاقة الصرف الآلي بإسمه الحقيقي خطئاً أمنياً أطاح به من حيث لم يحتسب وتم تسليمه إلى السلطات السعودية , والجهاز الأمني اللبناني الذي أطاح به هو الجهاز ذاته الذي أطاح قبل أيام في بيروت بمن يحمل كُنية ‘‘أبوعُمران’’ بعد أن أبلغ هذا الجهاز الإستخبارات السعودية بوجوده في بيروت , أبو عُمران ماهو إلا أحمد المُغسِّل المُطارد منذ 19 عاماً , والجهاز الأمني هو بالطبع ليس جهاز أمن المقاومة أو إستخبارات حزب الله وليس هو جهاز الأمن العام أو إستخبارات الجيش اللبناني , بل هي شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي الموالية لتيار المستقبل وسعد الحريري والتي ترتبط بعلاقات قوية بالسعودية .