المحاضرة الأخيرة.. تقليد متَّبع، تمارسه الجامعات الأمريكية العريقة، وفيها يقوم الأستاذ الأكاديمي بإلقاء محاضرته الأخيرة لطلبته وذلك قبل تقاعده أو انتقاله إلى العمل في جامعة أخرى..!
أمَّا صاحب المحاضرة الأخيرة، فهو راندي بوتش:”Randy Pausch” أستاذ علوم الحاسوب بجامعة كارنيجي ميلون، والباحث الأول في ديزني لاند والذي صنفته محطة (ABC) من أفضل ثلاث شخصيات في العالم عام 2007 م، ووضعته مجلة التايمز من أفضل مائة شخصية مؤثرة حول العالم..، لم تكن بسبب انتقاله إلى جامعة أخرى؛ وإنما بسبب انتقاله إلى العالم الآخر..! تاركًا زوجته وثلاثة من أبنائه (6 سنوات، و 3 سنوات و سنة) هم أعز ما يملك وهو لا يزال في الأربعينات من عمره، بعدما أخبروه وهو في السابعة والأربعين من عمره أن أمامه من ثلاث إلى ستة أشهر ليعيش بصحة جيدة.. ! وقد ألقى بوتش هذه المحاضرة في يوم عيد ميلاد زوجته جاي وقد حضرها حوالي 500 شخص، وذلك فور علمه بنتائج تحليل الأورام، وقبل أقل من ثلاثة أشهر من رحيله بعد رحلة صعبة مع مرض سرطان الكبد والبنكرياس.
في هذه المحاضرة الأخيرة، قام بوتش بجمع طلبته وأصدقائه ومحبيه، وألقى لهم بمحاضرته الأخيرة، وسماها: “الوصول الحقيقي لأحلام طفولتك”، وقد تصور كثيرون أن هذه المحاضرة، ستكتظ بالكآبة وكلمات الرثاء، ولطمية لذرف الدموع؛ لكنهم وجدوه مرحًا كعادته، منطلقًا بغير حدود..؛ نجح في أن يجعلها مختلفة تمامًا… زاخرة بالدعابة والتعليقات الصادقة والكلمات العميقة..؛ لم يذرف فيها دموعًا، بل كان أربطهم جأشًا؛ وكان كل هدفه أن يحفزهم لإكمال مسيرة مشاريعهم بدونه..! مقدمًا خلالها أجمل وأروع وأبلغ خطاباته، التي أثَّرت في الملايين على سطح المعمورة..!
سألوه: ما الذي ستخبره للعالم إذا علمنا أن هذه هي محاضرتك الأخيرة؟! وما الذي ستفعله في هذا العالم لو كانت لديك فرصة أخيرة؟! وما وصيتك وميراثك للعالم؟
كان مرحًا كما عهدوه، وعندما طلب إليه أحدهم أن يحدثهم عن أهمية الاستمتاع بالحياة،، قال لهم: أستطيع أن أقول لكم ذلك، ولكن سأكون كالسمكة التي تحاضر عن أهمية الماء..! لا أعرف كيف لا أستمتع، أنا أموت وأنا أستمتع وأمزح، وسأبقى كذلك لآخر يوم في حياتي؛ لأنه لا توجد طريقة أخرى.
ثم تحدث لهم عن حياته وكثرة الإحباطات والمحاولات الفاشلة التي مر بها، وكيف أنه رُفض في أكثر من جامعة دون أن يفقد الأمل، ثم ذكر موقفًا أثَّر فيه كثيرًا، عندما شكا إلى والدته صعوبة إحدى المواد في الجامعة، فقالت له: في مثل عمرك، كان والدك يقاتل الألمان في الحرب العالمية الثانية..!
أخبرهم راندي أنه لو يأخذ الإنسان عُشر الطاقة التي يصرفها في التذمر ويوجهها نحو حل المشكلة، فإنه سيتفاجأ بالحلول الكثيرة التي سيراها؛ ثم ذكر لهم قصة امرأة وقعت في قروض متزايدة، وأصيبت بحالة من القلق والاضطرابات، وكي تستطيع التغلب على هذه الضغوط حجزت عند معالج باليوجا، وقال لهم لو أن هذه المرأة صرفت وقتها في عمل إضافي بدلاً من اليوجا؛ لدفعت قروضها كاملة..! إننا يجب أن نحل المرض بدلاً من أن ندور حول أعراضه…!
قصَّ عليهم قصة تحدٍ وإصرار واجهها، حينما زار ذات يوم ديزني لاند (وهو صبي)، وبدلا من تركيز فكره واستمتاعه على الألعاب، كان يفكر، كيف يصنع أشياء كهذه ؟
وبعد تخرجه من جامعة كارنيجي ميلون أرسل شهادته وطلبه لـ والت ديزني؛ لكن جاءه الرد بالرفض أيضا. هنا لم يتوقف أيضًا؛ فالحواجز مصنوعة من أجل هدف كبير، هكذا قال لنفسه كان يرى صعوبات الحياة كتحديات، لم يخلقها الله لعرقلتنا وإيقافنا عن تحقيق أهدافنا، لا.. فهذا قول المتكاسلين ، لكنها في الحقيقة اختبار يتخطاه الكفء الجدير بالفوز، ويسقط فيها من لا يمتلك الجدية للتحرك والعمل والإنجاز..!
ثم دعا الآباء والمربين لاكتشاف مواهب أبنائهم وإبداعاتهم، قائلاً: دعوا أبنائكم يُخرجوا مالديهم..؛ لاتكتموا مواهبهم وتكبتوها..؛ دعوهم يرسموا على جدران غرفهم، ويلونوها بما يريدون من الألوان؛ لأن هذه هي الطريقة الطبيعية للأبناء كي يعبروا عن آرائهم واستكشافاتهم..! ومنع الأبناء هنا بأية حجة، يأتي بنتائج خطيرة، فقط انظروا للحياة وامتلاء شوارع الحكومات القمعية بالكتابات على الجدران؟! لقد فعلت هذا وأنا صغير، لم يغضب أبواي مني بل ينظرون إلى ما أفعله وهم يبتسمون في تشجيع.
ثم قصَّ عليهم موقفًا حدث له قبل سنوات، حينما كان في زيارة لأخته بسيارته الجديدة، وعندما هم بأخذ جولة هو وأبنائها الصغار، جاءتهم محذرة :
حافظوا على سيارة خالكم نظيفة، إنها جديدة..!
لا يجب أن تقفزوا..؛ أو تفتحوا النوافذ، أو تأكلوا الآيس كريم؛ كي لا تفسدوا شيئًا،
وتكرر هذه التحذيرات أكثر من مرة، ثم قال: هل تدرون ما الذي فعلته بعدما سمعت هذه التحذيرات.. ؟!
لم أعبّر لها عن امتناني أو شكري لهذه التنبيهات، بل أمسكت بأحد المشروبات الغازية وفتحتها، ثم سكبت محتوياتها في السيارة..!!
ثم عقَّب بقول: ليس في الأمر جنون، لقد اكتشفت أن ما يقف حائلاً أمام حركة الإنسان فلا يدعه ينجح، هو تلك التعليمات الكثيرة التي تلقاها طوال حياته . لقد أحببت أن أخبر أختي وأبنائها والجميع “أن الإنسان أهم من الأشياء”..!
بعد المحاضرة سألوه هل تمانع أن تعرض هوليود قصة حياتك في فيلم سينمائي؟! قال: ليس لدي مانع؛ ولكن من أين لهوليود أن تأتي بممثلة بجمال زوجتي لتقوم بدورها..! وبعد أن انتهى من محاضرته الملهمة صعدت زوجته على المصعد واحتضنته وسط تصفيق حار، وهمست في أذنه كلمة لم يسمعها أحد.. بعد وفاته عرف الناس من الكتاب المنشور عن هذه المحاضرة أنها قالت له: أرجوك لا تمت..!
وقد يعتصرنا الألم وتغالبنا الدموع؛ إذا استمعنا لنصائح من شخص نعلم يقينًا أنه على وشك الرحيل..؛ لأنه يستعد لما هو أصدق وأهم من أن يسدي لنا نصائح مغشوشة، يحصل بها منَّا على مصالح تافهة..! أما إذا كان هذا الشخص هو راندي بوتش الذي يمثل قصة نجاح خاصة في عالم تقنية المرح والألعاب، وفي عالم التدريس الجامعي…؛ فإن قيمة الصدق هنا تتوحَّد مع قيمة الابتكار والإبداع والخبرة..! وفيما يلي بعض النقاط المختارة من أهم ما جاء في محاضرته التي يمكن الاستماع لأجزاء منها على اليوتيوب، كما يمكن شراء كتابه المترجم إلى العربية، ويمكن أيضًا زيارة موقعه
لا تفكر كثيرًا في سوء أوراق اللعب(الكوتشينة)، التي تسلمتها، فأنت لن تستطيع تغييرها… فكر أكثر في كيف تلعب بها بمهارة أكبر ..!
العالم لا يعترف بالقادة الضعاف، ولا بالقادة الذين يعترفون بأصغر وأتفه وأسخف الحلول، فهم لا يجلبون خيراً بل ضراً، ولا تخلدهم ذاكرة التاريخ ولا حتى الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية.
عندما ترتكب خطأ وتفتقد توجيه الآخرين؛ يدل هذا على أنك أصبحت خارج دائرة اهتمامهم..!
عندما ترى نفسك ترتكب خطأ في مكان لا يلومك فيه أحد؛ فاعلم أنك لست في المكان الصحيح..!
قد تكره من يوجِّه أحدٌ نقدًا لك؛ ولكن اعلم أن من يفعل هذا هو شخص يحبك ويهتم بك ويدفعك للأفضل..!
شكراً لأولئك الذين يحفزون الناس للأفضل. فهم يتركون أثرًا لا يمَّحى في نفوسنا..!
العالم والتاريخ لا يعترف إلا بمن يحمل مشعل النور.. ويسير حافيًا على مسامير الألم وجمرات الشوك، حتى يبدع إنجازًا عالميًا وعدلاً أرضيًا ونورًا سماويًا ومددًا ربانيًا؛ فيرى من خلالهم الآيات الصغرى وربما الكبرى..!
كلنا يخطئ… إذا كنت في مكان لا تتلقى فيه النقد أبداً فهذا لا يعني أنك تفعل الصواب وإنما يعني أن ما تفعله لا يلفت اهتمام أحد.. إذا كنت تتلقى النقد باستمرار فهذا يعني أنك في المكان الصحيح لأن هناك من يهتم بك وبما تفعل.
كل النساء يبحثن عن كلمات الغزل والغرام من الرجال… أنا أقول لكل فتاة: لا تلقي بالاً لما يقوله الرجل لك..؛ فقط انظري ما الذي فعله من أجلك..!
نظن أن جدران مسكننا تجعلنا في عزلة عن الآخرين..؛ والحقيقة أن الجدران لا تعزلنا لكنها تمنع أخطاءنا من أن تتسرَّب إلى الخارج وتفضحنا..!
لماذا تسمي إخفاقاتك فشلاً… سمِّها: المزيد من الخبرة..!
لو طلبت مني نصيحة موجزة فستكون: “كن صادقاً”..!… ولو طلبت زيادة فسأضيف إليها: “في كل الأوقات”..!
حتى ويدي مرتعشة بفعل المرض وأثر العلاج الطبي… فأنا أنتهز كل فرصة لأكتب بخط يدي كلمة شكر وتقدير لكل من أسدى لي معروفًا… لن تصدقوا مدى السحر الذي تصنعه هذه الكلمات لمن تصل إليه..!
الأطفال في حاجة إلى أن يشعروا بحب آبائهم لهم. حتى بعد أن يرحلوا يمكن للآباء أن يقدِّموا لأبنائهم الحبَّ من خلال ما تركوه لهم من ذكريات جميلة..!
عندما كنت في الخامسة عشرة وأعمل في جمع ثمار الفراولة، كنت أشعر ببعض التبرم من ممارسة هذه المهنة الحقيرة، حينها تعصَّب عليَّ والدي كما لم يفعل من قبل وعلَّمني أن العمل اليدوي هو أرقى أنواع العمل…؛ وأنه يفضل أن يراني أعمل بالفأس على أن يراني قابعًا خلف مكتب أنيق أوزع نظرات التفاخر والتباهي على الآخرين..!
ليس أسوأ على أبنائك، من أن تحدِّد لهم أحلامهم..؛ دَعْ ابنك يمارس هوايته حتى لو كانت الشخبطة على جدران الغرفة؛ لا تضغط على ابنك ليذهب للفراش مبكرًا إذا كان يسهر فيما يساعده على تحقيق حلمه..!
لم تواجهني مشكلة لم أجد لها حلاً…؛فلا تيأس وفكِّر جيدًا..؛ ستجد الحل بين يديك..!
الغرور يضعف من قيمة إنجازاتك مهما كانت عظيمة.
أنت بحاجة للآخرين..؛ فلا أحد يستطيع أن يكمل المشوار وحده..!
أعتمد على ويكبيديا في معظم ما أريده من معلومات.
الشكوى والتذمر والاعتراض أسلحة العاجزين… ولن تجلب إلا المزيد من الشقاء.
الأهم من أن تبدأ رحلتك… أن تختار لها التوقيت المناسب..!
لا تبدأ بالخبر السيئ… ردة الفعل الأولى هي التي تبقى في الذاكرة..!
يمكنك أن تتجاوز أقرانك بمراحل… إذا عملت لبضع دقائق يوميًا أكثر منهم.
الحياة قصيرة… فلا تقل لأحبابك لا..!
رحل راندي بوتش عن دنيانا يوم الجمعة 25 يوليو 2008 عن 47 عاما. بعد ثلاثة أشهر تقريبًا من وقت هذه المحاضرة. لكنه لم يرحل من ذاكرة ووجدان الملايين الذين شاهدوا محاضرته عبر الإنترنت، أو أولئك الذين قرأوها مترجمةً في كتابه الذي تُرجم لأكثر من ثلاثون لغة..!