يستغرب بعض الناس، كيف بلغ الغلو بهؤلاء الخوارج ذروته، حتى وصلوا إلى تفجير المساجد، تلك البيوت التي أذن الله برفعها، وأن يُذكر اسمهُ وحدهُ فيها. كيف بلغت بهم الجراءة على الحرمات والتخوض في الدماء إلى أن يستسلهوا قتل المصلين العابدين الراكعين الساجدين؟ كيف وصلوا إلى هذا الدرك الأسفل والقعر السحيق من الضّلال والهوى والإفساد في الأرض؟ إنّ المشركين في الجاهليّة كانوا يعظّمون الأشهر الحرم، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه فلا يمسّه بأذى ولا يصيبه بسوء حتى تخرج الأشهر الحُرُم، وكان الرجل منهم يلقى قاتل أخيه في البيت الحرام فلا يعرضُ له، تشريفا للبيت الحرام، وتعظيما لما بقوا عليه من دين إبراهيم عليه السلام. إنّ المسلم الذي ما زال على الفطرة السّوية، ولم يمسس عقله سوء، ولم يتلطّخ بشيء من أوضار الأهواء، يستنكر هذه القبائح، ويستشنع هذه الفعائل، ويستغرب صدورها ممن يتظاهر بالدين ويتمسح بالشريعة. إنّ من يقلّب إرشيف الخوارج، ويفتح ملفاتهم، ويفتّش في صفحات تاريخهم الأسود المسطور بحروف مدادها خيانة الأمة والغدر بالمصلين والترويع للآمنين، خاصة في أوقات الفتن، وعند الحاجة إلى ائتلاف قلوب النّاس، يعرف حقيقة أمر كلاب النّار، ولا يغترّ بعد ذلك بشيء من شعاراتهم الكاذبة ودعاويهم المخادعة. إنّ زعيم الخوارج الذي خاصم النبي صلى الله عليه وسلم تديّنا واحتسابًا، وأنكر عليه أمره، وسارع الى تخطئته، واتّهام نيّته، والتشكيك في عدالته، فلن يبالي ورّاثه والسائرون في طريقه بسفك دماء أمة الاسلام كلها، ولو سالت أنهارا في سبيل إرواء عطشهم وإطفاء نار أحقادهم، ولن يتورعوا عن قتل شيخ مسنّ اعتكف متعبّدا في مُصلاه ولا شابّ قلبهُ معلق بالمساجد ولا من مشى في الظُلم إلى المساجد، وإن بشّره النبي صلى الله عليه وسلم بالنّور التام يوم القيامة. إنّ من تربّص بأمير المؤمنين وخير خلق الله أجمعين في زمنه علي بن ابي طالب رضي الله عنه وهو قائمٌ يصلّي في محرابه، وتقرّب إلى الله في ساعة الفجر المباركة المشهودة بإراقة دمه، محتسبا ذلك، ظانا أنّه يُحسن صُنعاً، ويتمتم عند قيامه بجريمته التي يعجز عن تصديقها عقل. لن يشعر أتباعه، ومن تكدّر بلوثته، وتسمم بفكرته، بشيء من وخز الضمير أو تكدير الخاطر عندما يهمّون بقتل المسلمين، والغدر بهم، واستباحة بيوت الله الآمنة المطمئنّة. إنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سريّة للقتال، نهاهم وحذرهم وخوفهم من عاقبة قتل الشيوخ الفانين والأطفال والنساء والعباد الآمنين في صوامعهم وأديرتهم وإن كانوا كفارا مشركين. فما بال هؤلاء الخوارج يستلذون قتل المسلمين، ويسترخصون دماءهم، ويتهافتون على الفتك بهم، وهم صفوف متراصّون في صلاتهم. إنّ الله تعالى نهى عباده المؤمنين عن قتل أنفسهم، وغلّظ في ذلك، فقال سبحانه: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) كيف تجرأ هؤلاء الشُّراة على قتل أنفسهم والجناية عليها مخالفين لآيات القرآن المحكمة التي يزعمون التحاكم إليها؟ إنّ دلائل الشّريعة المتضافرة نصت على وجوب طاعة ولاة الأمر كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). ألم يقسم الله تعالى في كتابه ويؤكد ذلك القسم العظيم بمؤكدات متوالية على عدم إيمان من لم يحكموا الله فيما اشتجروا فيه، فمالهم لا يرفعون بهذه الآية رأسا؟ ثم إنّ الأدلة متواترة لا يتمكن من تأويلها صاحب هوى أو علّة في قلبه، على الأمر بلزوم جماعة المسلمين، والتحذير من الشذوذ والإغراب والمخالفة. كيف يستقيم لهؤلاء الشرذمة دين وهم يفارقون جماعة المسلمين، ويستحلّون دماءهم وأموالهم وأعراضهم، ويعملون على إشاعة الفوضى والإخلال بالأمن في ديارهم؟! ألم يعلن النبي صلى الله عليه وسلم فيما صحّ عنه البراءة ممن صوّب سلاحه في نحور المسلمين فقال: من حمل علينا السلاح فليس منّا؟ ألم يصدع النبي صلى الله عليه وسلم بالنّكير على من تحققت فيه أوصاف هؤلاء المفتونين فقال: ومن خرج على أمتي يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه. فمن أعرض عن كل هذه النصوص المتكاثرة والدلائل البيّنة، وتمكن من الالتفاف عليها والتحايل على معانيها الصريحة ومقتضياتها الواضحة؛ كيف نستغرب منه جراءته على المسلمين وفتكه بالراكعين السّاجدين؟!