سألتُ أكثر الذين أعرفهم عن معنى هذه العبارة : "مَنْ راقَبَ النَّاسَ ماتَ هَمًّا" ؛ فكانت إجابتهم هكذا - مع اختلاف الصِّيَغ - : " مَنْ أَكْثَرَ النظرَ إلى أحوال الناس وشؤونهم ، وتَجَسَّسَ عليهم ، وتَحَسَّسَهم ، وتَسَقَّطَ أخبارَهم ؛ مات من الهمّ" . والحقُّ أن هذا ليس هو المعنى الصائب بتاتاً ؛ وحتى تتضح المقالة نبدأ من أول الحكاية :
الحكاية بدأتْ عندما أَمْلَى الشاعرُ الأُمَوِيُّ العملاق بَشَّارُ بن بُرْدٍ البيتَ الآتِيَ ذِكْرُهُ لتلميذه وَرَاوِيَتِهِ سَلْمٍ الخاسر ، وسلمٌ هذا قد سُمِّيَ بالخاسر لأنه احتاج مرةً أن يشتري نبيذاً فلم يكن معه مالٌ فباع مُصْحَفَهُ واشترى زِقًّا من النبيذ ؛ فَوُسِمَ بهذه السِّمَة . أَعُوْدُ من الاستطراد لأقول إن بشاراً أملى على راويته هذا البيت (من بحر البسيط التامّ) :
من راقب الناسَ لم يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ *** وفاز بِالطَّيِّبَاتِ الفَاتِكُ اللَّهِجُ
وهو يعني أنَّ مَنْ جعل الناس رُقَبَاءَ عليه ؛ لا يفعل أمراً ولا يُحْجِمُ عن آخَرَ إلا بما يحبّه الناس أو يكرهونه ، فلا رأي له إلا رأي الناس ؛ مَنْ كانت هذه حالُهُ فهو محرومٌ من الطيبات لا يستطيع بُلُوْغَ مآربه ولا نيلَ أَوْطَارِه . أما من كان شجاعاً وذا حجّة بالغة ؛ فهو من يفوز بالطيبات وينال مُرَادَاتِه غيرَ آبِهٍ بالناس وآرائهم التي لا تلتقي أبداً .
وعندما أملى - صاحب المدرسة القديمة - هذا البيت على التلميذ النجيب - من جيل الشباب آنذاك - استثقلَ التلميذُ البيتَ ورأى أنه لا يحمل الشروط التي يجب توافرها في الشعر الذي يسير مع الركبان وتتلقّفه الآذان ويرسخ في الأذهان . فتفتّق العقل الذكيُّ عن حيلتين إحداهما موسيقية (وزن الشعر) والأخرى فنية (تشذيب وتهذيب الألفاظ) ، فقام على الفور باستلهام معنى البيت - بعد تجاوز بعض الألفاظ - "يظفر" ، "الفاتك" ، "اللهج" ثم اختار بحراً خفيفاً ظريفاً لطيفاً مُطْرِباً هو بحر (مُخَلَّعُ البسيط) فجاء بهذا البيت :
من راقبَ الناسَ مات هَمًّا *** وفاز باللذَّةِ الجَسُوْرُ
فلما بلغَ بشاراً ما فعلهُ سَلْمٌ بالبيت ؛ أدرك أن بيتَ سلمٍ سَيَفْشُوْ في الناس كالمثل السائر ، وسيموت بيتهُ إلى يوم يُبعثون ؛ فغاظه ذلك وقال : ذهبَ واللهِ بيتي !! ثم مكث أياماً لا يُكَلِّمُ تلميذَه ، حتى شفع له بعضُ الشافعين فرضيَ عنه .
ومَنْ لم يقتنع بما أورَدْتُهُ من القراء والقارئات ؛ فإنني أطلب إليهم أن يستحضروا قول الواعظين : "يا فلان راقبِ اللهَ في أفعالك" لِيَتَبَيَّنَ لهم المعنى المراد ، وَلِيَسْتَيْقِنُوا الخطأَ الذي رسخ في أذهان الناس حتى حان وقتُ اقتلاعه .م ن ق و ل