قبل عدة أشهر فيما يقارب العام والثوار يعانون حالة من الاحتقان فيما بينهم، مع ضعف شديد للمساعدات على كافة الأصعدة العسكرية والإنسانية؛ حتى كاد الحصار يفتك بإخواننا في الغوطة وغيرها، وتمكن النظام من استعادة الكثير من المناطق المحررة البلدة تلو الأخرى. وقد بدت في الأفق بوادر انفراجة حيث تغيرت الأوضاع في المملكة السعودية وتواصل الدعم والمساعدات وتوحدت الكثير من الفصائل، فيما أسفر مؤخرًا عما يعرف بجيش الفتح الذي وفق إلى سيل من الانتصارات والفتوحات أرعبت نظام الأسد وأقلقت أمريكا والغرب الذي يبدو وكأنه لم يرتب بعدُ أوراقه بشأن من يخلف بشار!! وعلى صعيد آخر فقد مُني تنظيم "الدولة" بالكثير من الهزائم على أيدي الجيش العراقي وميليشياته الصفوية؛ مما أدى به إلى الانسحاب من الكثير من المناطق كديالى وشمال الموصل وسنجار وتكريت وأجزاء من الفلوجة. هذه الهزائم أدت إلى إضعافه وإنهاكه بشكل كبير؛ حيث فقد الآلاف من رجاله والكثير من عتاده، في كوباني وتكريت وغيرها من المعارك. وفي إطار توظيف الحدث وتحكُّم أمريكا والغرب في مجرى الأحداث، يدفع النظام بين الحين والآخر إلى إذكاء المحرقة السورية بمزيد من الوقود، فيسلم للتنظيم بعض المناطق التي يستردها منه بعد ذلك، أو يتركها التنظيم نفسه تحت مسمى الانسحاب التكتيكي ويسلمها للميليشيات الأسدية، في لعبة تسليم وتسلم مستمرة. يفيد منها التنظيم السلاح والعتاد، ويفيد منها النظام إضعاف هذه المناطق وتدميرها وتهجير أهلها لتكون لقمة سائغة له بعد ذلك. فالرمادي مساحة جغرافية هائلة لا تستوعبها 3000 لو تفرقوا في معشار مساحتها لما ظهر لهم أثر، ولكنها تحتوي على ترسانة كبيرة من الأسلحة والذخيرة. وتدمر تلك المدينة الحصينة التي تحوي بين جنباتها ذاك السجن اللعين سيئ السمعة، ولك أن تتخيل مدى التحصين الممكن لبلدة فيها سجن عسكري+ حقول البترول+ مخازن سلاح وذخيرة+ مواقع أثرية!! كل هذا تسلمه تنظيم "الدولة" في أيام!! ربما يعترض البعض ويتهم هذا التحليل بالمبالغة في تصدير نظرية المؤامرة!! وأقول: وليكن ذلك!! فلدينا من الشواهد والقرائن التي تؤكد لنا نتائج هذا التحليل أذكر بعضها لعل الغافل ينتبه والمغفل يفيق من غفوته: أولًا: رأينا جميعًا كيف عجز التنظيم عن الاستيلاء على مناطق هي أصغر بكثير من هذه المناطق، ولا تمثل قيمة تذكر بجانب هذه المناطق الكبيرة الغنية بالأسلحة والذخيرة، فمثلًا كوباني تلك المنطقة الصغيرة عجز التنظيم عن الاستيلاء عليها لمدة ستة أشهر، ثم خرج منها بعد أن فقد الآلاف من رجاله بين قتيل وجريح.. وتكريت مؤخرًا. فكيف يسوغ في العقل أن يبتلع التنظيم منطقة بحجم الرمادي وتدمر فجأة هكذا وبدون مقدمات بين عشية وضحاها؟! إن وجود قتلى من الطرف الآخر وبعض العمليات الشكلية أمر لابد منه، فمن أحبك المشهد ليس أحمق ليسلم منطقة بهذا الحجم دون خسائر، وفي صمت!! ثانيًا: هذه الأرتال التي تتحرك بين العراق وسوريا، وبين مناطق البلدين، بهذا الطول والزمن وفي صحراء مكشوفة تملأ سماءها طائرات النظام والتحالف التي لا تبقي ولا تذر للثوار، ثم هي لا تتعرض لهذه الأرتال مطلقًا حتى تنقل ذخائرها من تدمر إلى الرقة وسط تهليل وتكبير جنود الخلافة!! هذه الطائرات التي أفرغت أطنان من المتفجرات على الثوار خاصة مقرات جبهة فوق قاعدة المسطومة على مدار أيام متتالية، وقصفت مخازن السلاح والذخيرة، تركت هذه الأرتال الطويلة المكشوفة تسير في الصحراء لمئات الأميال تنقل مخازن الذخيرة والسلاح بأمان في وضح النهار!! مقارنة بسيطة بين حال الطيران في تكريت وكوباني والمسطومة وجسر الشغور تؤكد أنها غضت الطرف عن التنظيم وأرتاله عمدًا، وأن الاستيلاء على هذه المناطق بما فيها من أسلحة أمر مراد، له ما وراءه!! ثالثًا: أيديولوجية التنظيم المعلنة في أولوية تقصد المجاهدين والثوار الذين يسمونهم صحوات الردة، تجلت في هذا الحدث، حيث لم تجز رقبة نصيري واحد في تدمر بل تركوا ليفروا بعائلاتهم، بينما في ثلاثة أيام يقتل من الشعيطات السنية ما يقارب من الخمسين سنيًّا تؤكد أن هذه الأسلحة قد سمح لهم بها لخلق حالة من التوازن بين جميع الأطراف (التنظيم- النظام- الثوار)، هذه الحالة تضمن استمرار المحرقة الشامية؛ بهدف استنزاف الجميع وابتزازه، وكل ذلك يصب في النهاية في مصلحة الغرب وأمريكا. رابعًا: ثمة انتعاشة للحالة الثورية ارتبطت بتغير من بيده أوراق الملف السوري والتحالفات بين المملكة وتركيا وقطر، بما يعني أن الأوضاع على الأرض قد أعيد ترتيبها لصالح الثورة والثوار، وهذا قد يعتبره الغرب خروجًا عن المسار المرسوم لسير المعركة، ووجوب استمرارها، فكان لابد من مواجهته بهذا الحدث الذي يتكرر بين الفينة والأخرى أمام ناظرينا. وأخيرًا: فكما توجهت أسلحة الموصل قبل عام إلى دير الزور حيث أنهى تواجد جميع الفصائل في المنطقة الشرقية إلا تنظيم "الدولة"، وتوجه بعضه الآخر إلى الرقة ليضرب في خاصرة الثوار في ريف حلب، فلا شك أن هذه الترسانة ستوجه هي الأخرى لوقف زحف الثوار في الشمال والجنوب ومزيد من الحصار للغوطة ومناطق السنة، وقد نرى انسحابًا وشيكًا للتنظيم من هذه المناطق لاسيما الرمادي، ولكن بعد تسلمه كامل السلاح والذخيرة، وستبدي لنا الأيام القادمة إلى من تتوجه فوهات البنادق!!
الكاتب والباحث عادل الباشا
داعية إسلامي, كاتب وباحث شرعي له العديد من الابحاث العلمية والشرعية وله إسهامات وكتابات عديدة في الثورة السورية.