فيما ينشغل العالم بأزمة ديون اليونان وتبعاتها الاقتصادية على الاقتصاد العالمي، هناك مشكلة حقيقية وأكثر خطورة تعتمل في جانب من النظام المالي العالمي قد لا تحظى بالاهتمام الإعلامي لكنها ربما تكون شرارة أزمة عالمية جديدة أشد وطأة من الأزمة المالية قبل ست سنوات.
قد لا ينتبه كثيرون لتلك المشكلة، لأنها أشبه بما يعرف طبياً بوصف «القاتل الصامت»، أي تلك العلة التي لا تبدو لها أعراض يشعر بها المريض، بينما هي تزداد تفاقماً حتى تنال منه مرة واحدة فجأة.
وحتى لا يربط أحد بين أزمة الدين السيادي اليوناني (وهو في قدر كبير منه سندات دين حكومية) وبين مشكلة سوق السندات نشير فقط إلى أن كل دين اليونان في حدود ثلاثمئة مليار يورو، عشرات المليارات منها فقط سندات.
وحتى لو كان الدين كله سندات، فإن حجم سوق السندات العالمي الذي يتجاوز عشرين تريليون دولار لن يتأثر كثيراً بسندات دين اليونان.
إنما يشهد سوق السندات في الأشهر الأخيرة تقلبات مقلقة تثير الشكوك في قدرة النظام المالي العالمي على تحمل أزمة قد تكون أشد ضرراً من أزمة 2009، التي لايزال الاقتصاد العالمي كله يعاني آثارها حتى الآن.
شهد الأسبوع الأول من مايو/أيار عمليات بيع كثيفة لسندات الدين الحكومية في أسواق السندات، وفقدت السندات الحكومية ما يصل إلى 340 مليار دولار من قيمتها، وذلك وسط مخاوف من انهيار سوق السندات وتراجع تدخل البنوك المركزية بشراء سندات الدين الحكومية.
وإلى جانب سندات الخزانة الأمريكية، التي تعد معياراً لوضع سوق السندات، تعتبر السندات الحكومية الألمانية لمدة 10 سنوات مقياساً مهماً أيضاً لحركة السوق.
وتعد سندات الدين الحكومي المعيار الأساسي لسوق السندات، كما أن قطاعات مالية أخرى في السوق تتأثر بالتغيرات في سوق السندات (مثل قروض الرهن العقاري وصناديق معاشات التقاعد). ما يثير اللبس لدى المتابع العادي لأخبار أسواق السندات، أنه يرى أخباراً من قبيل «ارتفاع العائد على سندات كذا..» أو تراجع معدل الفائدة على هذه السندات الحكومية أو تلك.
وللوهلة الأولى تبدو تلك أخباراً جيدة للمستثمرين حاملي السندات أو للحكومات المدينة بها.
إلّا أن ارتفاع العائد على السندات لا يعني بالضرورة أن حالة السوق صحية وأن المستثمرين يستفيدون، إذ أن العائد على السندات يتناسب عكسياً مع أسعار تلك السندات: كلما زاد العائد انخفض السعر، وتلك خسارة لمن يملك السندات.
على سبيل المثال، منذ منتصف إبريل/نيسان ارتفع العائد على سندات الدين الحكومي الألمانية، لكن قيمة سندات الدين الألماني بمدة 30 عاماً تراجعت بنسبة 15 في المئة، فيما تراجعت قيمة السندات الحكومية البريطانية بنسبة 5 في المئة وتراجعت نسبة قيمة سندات الخزانة الأمريكية بنسبة 7 في المئة في تلك الفترة.
لفهم هذا، ومع أن مالكي السندات يحصلون على العائد السنوي حسب نسب الفائدة عليها، يشار إلى أن الحساب الإجمالي للسند هو قيمته عن استردادها في نهاية المدة والعائد عليه خلال مدته.
للتبسيط، تصور أن قيمة السند ارتفعت بنسبة أكثر من 10 في المئة، وتضاعف العائد عليه ليرتفع من 2 إلى 4 في المئة.
ومع عملية التصحيح في سوق السندات هبطت قيمة السند 15 في المئة.
فعند استحقاق استرداد السند في نهاية المدة سيكون حامله قد خسر ما نسبته 11 في المئة.
مما يزيد الغموض العام (أي عدم معرفة الجمهور) بشأن سوق السندات أن الأغلبية العظمى ممن يشترون سندات الدين الحكومي هي صناديق كبيرة ليست أخبارها سائدة في الإعلام مثل محافظ الاستثمار في أسواق الأسهم أو العملات أو السلع.
فهي إما صناديق معاشات تقاعد أو صناديق سيادية لدول وحكومات أو ما شابه.
ويتسم سوق السندات أيضاً بالضحالة والهشاشة مع خروج صناديق رئيسية منه أو مراجعة خططها للاستثمار في السندات، ولم يبق إلا اللاعبين الأصغر ما يجعل حركة البيع والشراء مثيرة للقلق.
وكانت سياسة التيسير الكمي (أي ضخ الأموال في الاقتصاد لتشجيع الإقراض والائتمان) أدت إلى تراجع العائد على السندات في الأعوام الأخيرة، مع ارتفاع سعر السندات بشدة نتيجة زيادة الطلب (المدفوع بتوفر أموال الائتمان بسبب حزم التنشيط الاقتصادي والتيسير الكمي). وتلك السياسة اعتبرت أداة رئيسية في محاولة الدول الرئيسية إصلاح تبعات الأزمة المالية العالمية في 2009 2010 لكنها على ما يبدو خلقت مشكلة أخرى في قطاع آخر ليس ببعيد عما سبب الأزمة السابقة.
ولعلنا نذكر أن أزمة 2009 التي يعرف عنها إعلاميا أنها بدأت بانهيار سوق الرهن العقاري الأمريكي، لم تكن إلّا نتيجة لاختلالات سوق السندات عبر مشتقات استثمارية مفتعلة لتدوير الديون الكبيرة.
وإذا بدأت البنوك المركزية في شراء السندات، وقدرت أن التضخم في طريقه للارتفاع، فإن برامج التيسير الكمي لن تطول.
وسيعني ذلك تراجع الطلب في السوق على السندات، ما يعني بالضرورة هبوط أسعارها.
كما أن سوق السندات سيكون عليها التكيف الحاد مع أي اتجاه لرفع أسعار الفائدة، خاصة في الولايات المتحدة.
وستتأثر أسواق الأسهم أيضاً، فارتفاع العائد على السندات يجعل المستثمرين يسعون إلى مكاسب أكبر من الأسهم ما يدفع مؤشرات أسعار السهم هبوطاً.
فارتفاع أسعار الفائدة يجعل المستثمرين يخرجون من سوق السندات لتحقيق عوائد أكبر على أموالهم مع ارتفاع الفائدة.
لعل واضعي السياسات النقدية في الاقتصادات الرئيسية يدركون أن هذه العلة الصامتة يمكن أن تؤدي بالعالم إلى كساد، وليس فقط ركود، كما حدث مع أزمة العقد الماضي، ويعملون بجد لتفادي تكرار العلاج المؤقت الذي يفاقم العلة أكثر مما ينهيها