أصدر معهد كينيدي في جامعة هارفارد ثلاث دراسات متقدمة عن السياسات والضوابط السيادية Governance التي ينبغي أن تكون عليها الصناديق والاستثمارات الحكومية لتحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي المطلوب، وقد تبنى إصدار هذه الدراسات كل من مركز العلوم والعلاقات الدولية ومركز التنمية الاقتصادية بمعهد كينيديJoint reports، وهما من أكبر مراكز البحوث Think Tanks في جامعة هارفارد. وتعتبر تلك الدراسات بمثابة دليل استرشادي لكثير من الدول للاستفادة من الفوائض المالية نحو تحقيق استقرار مالي على المدى البعيد، كما توضح في مجملها أهمية أن تكون الاستثمارات الخارجية مستقلة في إدارتها عن البنك المركزي ووزارة المالية، وأن يكون الصندوق السيادي جزءا من إطار كامل لضبط السياسة المالية من خلال آليات واضحة للمصروفات الحكومية والادخار الوطني.
الكاتب والباحث الرئيس في تلك الدراسات، هو الدكتور خالد السويلم عضو وخبير في معهد كينيدي وكبير المستشارين مدير عام الاستثمار السابق في مؤسسة النقد العربي السعودي. وتشمل تلك البحوث دراسة للسياسة المالية والاستثمارات الخارجية السعودية خلال السنين الماضية. تنتهي هذه الدراسة باقتراحات لإصلاح السياسة المالية وتوصيات محددة لإنشاء جهاز مستقل للاستثمارات السعودية / صندوق ادخار سيادي (Savings fund)، إضافة إلى صندوق للاستقرار المالي (income stabilization fund), في إطار سياسة مالية مقننة تهدف إلى التأسيس لدخل دائم للدولة منفصل عن إيرادات البترول Permanent income. وتوضح الدراسة الخاصة بالسياسة المالية السعودية، أن الاحتياطيات الحالية لدى المملكة غير كافية أخذاً في الاعتبار حجم الاقتصاد السعودي ومتطلبات الإنفاق الحكومي خلال السنوات المقبلة، وأن وزارة المالية أضاعت فرصة تاريخية لبناء احتياطيات كافية خلال السنوات العشر الماضية التي وصل فيها دخل الدولة من البترول إلى أرقام قياسية غير مسبوقة.
وتثبت الدراسة بتطبيقات علمية مقننة في السياسة المالية أنه كان بالإمكان أن يصل حجم الاحتياطيات والاستثمارات الخارجية السعودية إلى أكثر من 1.8 تريليون دولار مقارنة بالحجم الحالي الذي يقدر بنحو 750 مليارا، لو عملت وزارة المالية بالإصلاحات المقترحة المتمثّلة في ضبط السياسة المالية وإنشاء صندوق سيادي مستقل، أي أكثر من تريليون دولار إضافية للاحتياطيات الحالية، دون أن يؤثر هذا الادخار في المشاريع التنموية، كما جاء في الدراسة وفي البيان الرسمي الصادر عن جامعة هارفارد. ويوضح الرسم البياني النمو في حجم الاحتياطيات الذي كان بالإمكان أن يكون خلال السنوات العشر الماضية. (مجموع الاحتياطيات لصندوق الادخار وصندوق الاستقرار المالي). وهذه الدراسة التي قام بها الدكتور السويلم عن السياسة المالية السعودية ودور الصناديق السيادية، بمشاركة مجموعة من كبار الخبراء والمختصين في جامعة هارفارد، تعتمد على إقرار ضوابط مالية في الإنفاق الحكومي والادخار الوطني، وتتفق إلى حد كبير مع توصيات سابقة ومتعددة لصندوق النقد الدولي خلال الزيارات السنوية والمشاورات التي يقوم بها الصندوق مع المسؤولين في المملكة ومع وزارة المالية على وجه الخصوص، في إطار ما يعرف بمشاورات المادة الرابعة IMF Article 4 Consultation. وتتلخص توصيات صندوق النقد الدولي في مجملها في أهمية الرفع من مستوى التخطيط للسياسة المالية السعودية. وأن يكون التخطيط للسياسة المالية والميزانية العامة للدولة مبنياً على رؤية مستقبلية وضوابط مالية محسوبة على المدى المتوسط والبعيد وليس فقط على المدى القصير، لفصل delinks متطلبات الإنفاق الحكومي عن التقلبات في دخل البترول، إلا أن وزارة المالية لم تعمل بشيء منها على مر السنين. وتبين الدراسة أن وزارة المالية استمرت في إعداد ميزانيات عامة للدولة مبنية على خطط قصيرة الأجل تتغير فيها المصروفات من سنة لأخرى حسب دخل البترول. وهي سياسات توسعية في الإنفاق عندما ترتفع أسعار البترول Procyclical، واستمرارا في الصرف المرتفع عندما تنخفض أسعار البترول Counter-cyclical. إضافة إلى ذلك، وخلال السنوات العشر الماضية، في ظل الطفرة المالية التي شهدتها المملكة، كانت مصروفات الميزانية تزيد في كل سنة عما كان مخططاً له وقت إعداد الميزانية، في زيادات متتالية سنة بعد سنة وبنسب كبيرة. كما هو واضح في الرسوم البيانية. وتوضح الدراسة أن هذه الطريقة في الصرف المطرد هي على عكس ما تصرح به وزارة المالية في أن السياسة المالية المتبعة متوازنة من خلال اتباع سياسة "معاكسة الدورات الاقتصادية"، في حين إن تلك السياسة المالية لم تكن فعلياً متوازنة، ولم يكن يحكمها أي ضوابطAd hoc counter-cyclicality. ولهذا لم يوفر كثير من الفوائض المالية خلال السنوات العشر الماضية، وبقيت مستويات احتياطيات الدولة في الحد الأدنى المطلوب، مع الأخذ في الاعتبار انخفاض أسعار البترول. وتقول الدراسة، إنه لو كان التخطيط المالي بالشكل المطلوب خلال السنين الماضية، لأصبحت الاحتياطيات السعودية في وضع أكثر قوة، ولكان هبوط أسعار البترول غير مؤثر في الاقتصاد السعودي وفي المتطلبات المستقبلية للإنفاق الحكومي، كما بالنسبة للدول الخليجية الأخرى "الكويت والإمارات وقطر" التي أسست صناديق سيادية، بلغ الحجم النسبي per capita لكل منها نحو ثلاثة أضعاف الحجم الحالي للاحتياطيات السعودية. أي أنه كان من المفترض بحسب الدراسة أن يكون حجم الاحتياطيات السعودية ما يقارب مبلغ 1.8 تريليون دولار. الترتيب المقترح في هذه الدراسة يهدف بشكل رئيسي إلى فصل تأثير التقلبات في أسعار البترول عن متطلبات الإنفاق الحكومي Decoupling، وبناء مصدر آخر للدخل من خلال إنشاء صندوق سيادي مستقل وضوابط مالية في الإنفاق العام والادخار الوطني. تتطرق الدراسة أيضاً إلى أهمية التحرك سريعاً نحو تنويع الاقتصاد بطرق طموحة تتعدى التبسيط والبطء الشديد الذي كان معمولاً به في التخطيط الاقتصادي في المملكة خلال السنين الماضية. وتشير في هذا الشأن إلى إحدى أهم الأدوات العلمية في التخطيط والتنمية الاقتصادية التي تم تطويرها خلال السنين الماضية في جامعة هارفارد التي تعطي عمقاً أكبر لعملية تنويع الاقتصادEconomic complexity. حيث إن المطلوب ليس فقط زيادة النمو والإنتاج في الاقتصاد، بل أهم من ذلك زيادة التنويع في الإنتاج واكتساب الخبرات في مجالات وصناعات أكثر تطوراً وتعقيداً Diversity&complexity. ولهذا، فإنه إضافة إلى دور الصناديق السيادية في تحقيق الاستقرار المالي، تشير الدراسة أيضاً إلى أهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به ما يعرف بصناديق التنمية السيادية Development funds في تنويع الاقتصاد. وتشير إلى الحاجة إلى إصلاح وتطوير صندوق الاستثمارات العامة ليكون أكثر نشاطاً وفاعلية. وهناك إشارة إلى أمثلة كثيرة في هذا المجال، منها جهاز الاستثمار في سنغافورة Temasek، وخزانة في ماليزيا Khazanah، إلا أن الدراسة تشدد على أن شرطاً أساسياً لتحقيق تلك الأهداف التنموية يكمن في ضبط وإصلاح السياسة المالية أولاً وإنشاء صندوق سيادي مستقل ليكون رافداً لدخل البترول ومصدراً آخر لدخل الدولة. كما تؤكد الدراسة أهمية الإسراع في تطبيق تلك الإصلاحات للمحافظة على الاحتياطيات السعودية وتنميتها لتلبية الاحتياجات المستقبلية، من خلال ضبط السياسة المالية وإنشاء صندوق سيادي مستقل عن مصروفات وزارة المالية. وأن لدى المملكة العربية السعودية فرصة تاريخية أخرى لإنشاء إطار مالي مستدام ومصدر دخل دائم للمستقبل. وأن أي تأجيل لتلك الإصلاحات والضوابط المطلوبة قد تنتج عنه صعوبة التطبيق مستقبلاً نظراً لأن الاحتياطيات الحالية في حدودها الدنيا نتيجة للسياسات المالية السابقة. وفي ختام الدراسة إشارة إلى الإصلاحات الأخيرة والهيكلة الجديدة بإنشاء مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية إضافة إلى مجلس الشؤون الأمنية والسياسية، لكونهما الجهتين القادرتين على تحقيق الإصلاحات المطلوبة والإشراف على تنفيذها بما يخدم الأمن الاقتصادي للمملكة برؤى مستقبلية واستراتيجيات وطنية واضحة.