تروي كتب التاريخ أنه في يوم بارد من ايام يناير من عام 1492م امتطى ابو عبدالله الصغير صهوة فرسه مولياً ظهره لقصر الحمراء الشهير وقد علت وجهه سحابة من الحزن وخيم على الركب الصغير صمت طويل ينبئ عما يكتنف قلوب هذا الركب من غم شديد. سار ابو عبدالله تتبعه امه وبعض من اهله وصحبه في ذلك الطريق الملتوي الطويل الذي يمر بين شعاب غرناطه وجبالها متجهاً إلى منفاه ليفارق غرناطة إلى الابد كانت الشمس قد آذنت بالغروب واخذت تعكس باشعتها الذهبية على جدران قصر الحمراء لتكتسي حجارته بصبغة حمراء باهتة فتضفي عليه سحراً وجاذبية. توقف أبو عبدالله قليلاً عند تلة صغيرة تُشرف على وادي غرناطة المكتظ ببيوته البيضاء ليلقي نظرة وداع اخيرة على مدينته الحزينة التي يتوسطها قصره الشهير.. تسارعت في ذهنه ذكريات الصبا وأيامه الجميلة التي قضاها في صالات وأروقة هذا القصر وفي حدائقه الغناء الواسعة كان يعرف ان تلك الوقفة سوف تكون الاخيرة وان تلك النظرة ستكون النهائية اذ ليس يأمل ابداً بأن يرى مدينته المحبوبة ثانية تمنى وقتها لو تطول تلك الوقفة لعله يستطيع ان يملأ عينيه بتلك المناظر الساحرة التي تثير في نفسه ذكريات الصبا إلاّ ان الحزن الذي يعتصر قلبه سرعان ما استحوذ على عينيه وإذا بهما تنهمران دمعاً ساخناً حاول جاهداً ان يخفيه عن نظرات امه الحادة التي عاجلته بذلك البيت الناري الذي تناقلته الاجيال جيل بعد جيل
إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً .... لم تحافظ عليه مثل الرجال
ما أشبه الليله بالبارحه ان هذا البيت الذي قالته عائشة ام ابو عبدالله الصغير اخر ملوك غرناطة قبل ان تسقط نهائيآ في يد فرديناند وينهي حكم المسلمين فيها وفي الاندلس .. لو كانت السيده عائشه بيننا الان لصرخت بهذا البيت بصورة مباشرة لجميع الحكام العرب ! ترى لماذا وصلت حال العرب الى هذا الدرك الاسفل في كل شئ اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وإجتماعيا وعسكريا ؟
الامه تعيش حالة من التيه من سنين طويله بسبب حكام أحالوا دولهم الى دول فاشله أو دول بالكاد تدير الشأن اليومي لتلك البلدان واحالوا شعوبهم الى جماعات مشغولة فقط بهمها اليومي لتظل فقط على قيد الحياة .
في عمدة كتب الفكر السياسي الإسلامي، أعني كتاب (الأحكام السلطانية) للإمام أبي الحسن الماوردي يرد ضمن واجبات الحاكم الشرعية «أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح»، وهو مايشرحه الدكتور مروان محروس في كتابه (مسئولية رئيس الدولة في النظام الرئاسي والفقه الإسلامي دراسة مقارنة) قائلا «على رئيس الدولة أن يقوم بإختيار وزراء مساعدين له، وأن يراعي في إختيارهم الكفاءة والقدرة على تحمل المسئولية، ويكون إختياره على أساس الكفاءة وإلا فإنه سيكون خائنا لله ورسوله والمؤمنين، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قلد رجلا عملا على عصابة وهو يجد في العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين».
جاء في صحيح مسلم عن الحارث بن يزيد الحضرمي أن أبا ذر قال: قلت يارسول الله ألا تستعملني، قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها»، وأبو ذر هذا من الدين والورع ما لا يطاوله في ذلك أحد، وفيه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر».
إذا ماهو الحل السحري لتجاوز كل ذلك الفشل والهوان ؟
إنه اعز مفقود ببلاد العرب !!! إنه العدل ... العدل أي الإنصاف، وهو إعطاء المرء ما له، وأخذ ما عليه، أي إعطاء كل ذي حق حقه. وهو أمر إلهي، حيث يقول تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ويقول تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} والعدل اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته العلى. وقد حفلت السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي عموماً بنماذج من العدل، قَلَّ نظيرها في الحضارات الغربية على مر العصور، وتروي كتب السيرة جميعاً قصة المرأة المخزومية التي سرقت أثناء فتح مكة، وأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقيم عليها الحد ويقطع يدها، فوسط أهلها أسامة بن زيد ليشفع لها عند رسول الله (ص). فلما حدَّث أسامة النبيَّ بذلك، تغير وجه الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: «أتشفع في حدٍّ من حدود الله». ثم قام فخطب فقال: «يا أيها الناس، إنما أهلك الذين قَبْلَكُم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها .
وذات يوم، اختلف الإمام علي بن أبي طالب وهو أمير للمؤمنين مع يهودي في درع فذهبا إلى القاضي وقال الإمام علي إن هذا الدرع الذي مع اليهودي هو درعي ولكن اليهودي أنكر ذلك فطلب القاضي من الإمام علي أن يحضر شهود أو بينه فأحضر ولده الحسين ولم يكن عنده شاهد آخر، فحكم القاضي بالدرع لليهودي فتعجب اليهودي كيف يحكم القاضي على أمير المؤمنين ! فتأثر اليهودي أيما تأثر من هذا العدل وقال: صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لَدرعُكَ لقد سَقَطَتْ عن جملٍ لك فالتقطتُها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فأعطاه الإمام علي الدرع فرحاً بإسلامه.
والعدل أساس الملك فبالعدل تقوى دعائم المجتمع فيأخذ كل مولطن حقه من كل شئ يضمن له حياة كريمه عزيزه
ويأمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم والعدل يوفر الأمان للناس جميعاً على حد سواء ضعيفهم وقويهم فقيرهم وغنيهم، حاكمهم ومحكومهم ويحمي الحقوق والأعراض والأملاك ويشيع الطمأنينة في المجتمع وينفي الظلم عنه ... تروي كتب التاريخ أن أحد الولاة كتب إلى الخليفة عمر بن عبدالعزيز يطلب منه مالاً ليبني سوراً حول عاصمة الولاية فأجابه عمر : وماذا تنفع الأسوار؟ حصِّنها بالعدل ونقِّ طُرُقها من الظلم .
لما ولي عمر إبن عبدالعزيز الخلافه كتب الى الامام الحسن البصري ليكتب له عن صفة الامام العادل فأجابه الامام الحسن بهذه الرساله : من الحسن البصرى إلى عمر بن عبد العزيز اعلم يا أمير المؤمنين أن الله قد جعل الامام العدل قوام كل مائل وقصد كل جائر( أي هو الذي يحمل الجائر على القصد و عدم الظلم ) وصلاح كل فاسد ، وقوة كل ضعيف ، ونصفة كل مظلوم ، ومفزع كل ملهوف . والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعى الشفيق على إبله , الرفيق الذى يرتاد لها أطيب المراعى, ويذودها عن مراتع الهلكة ، ويحميها من السباع ويكنها من أذى الحر والقر( البرد الشديد ) , والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحانى على ولده يسعى لهم صغارا ويعلمهم كباراً, ويكتسب لهم فى حياته ويدخر لهم بعد مماته ، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها حملته كرها ووضعته كرها وربته طفلاً، تسكن بسكونه ، ترضعه تارة وتقطعه أخرى، وتفرح بعافيته وتهتم بشكايته ، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كوصى اليتامى وخازن المساكين يربى صغيرهم ويمون كبيرهم . والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده ، والإمام العدل يا أميرالمؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله ويسمعهم ، وينظر إلى الله ويريهم ، وينقاد إلى الله ويقودهم « فلا تكن يا أمير المؤمنين كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله ، فبدد المال وشرد العيال ، فأفقر أهله وفرق ماله . واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزع بها عن الخبائث والفواحش ، فكيف إذا أتاها من يليها، وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده ، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم . واذكريا أمير المؤمنين الموت وما بعده ، وقلة أشياعك عنده , وأنصارك عليه فتزود له ، ولما بعده من الفزع الأكبر، واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذى أنت فيه ، يطول فيه ثواؤك ( أي مقامك ) ، ويفارقك أحباؤك ، يسلمونك فى قعره فريدا وحيدا، فتزود له بما يصحبك : ﴿ يوم يفر المرء من أخيه ء وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ﴾ واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما فى القبور وحصل ما فى الصدور، فالأسرار ظاهرة ، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن يا أمير المؤمنين وانك فى مهل ، وقبل حلول الأجل ، وانقطاع الأمل . لا تحكم يا أمير المؤمنين بحكم الجاهلين ، ولا تسلك بهم فى سبيل الظالمين ، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين ، فإنهم لا يرقبون فى مؤمن إلاً ولا ذمة ، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك ، وتحمل أثقالك وأثقالاً مع أثقالك ، ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك ، ويأكلون الطيبات فى دنياهم بذهاب طيباتك فى آخرتك ، لا تنظر إلى قدرتك اليوم ، ولكن انظر إلى قدرتك غدا، وأنت مأسور فى حبائل الموت ، وموقوف بين يدى الله فى مجمع الملائكة والنبيين والمرسلين ﴿ وعنت الوجوه للحى القيوم﴾ وإنى يا أميرالمؤمنين ، وان لم أبلغ بعظتى ما بلغه أولو النهى من قبلى لم آلٌ شفقة ونصحا، فأنزل كتابى عليك كمداو حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة ، لما يرجو له من العافية والصحة . . والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته
" الايقرأ الحاكم العربي الايه الكريمه (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ألا يخاف هول ذلك اليوم !!!
ألا يقرأالحاكم العربي الايه الكريمه ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ )
فعلا إنه أعز مفقود بفقده تردت حال أمة العرب الى ما وصلت اليه .... إنه العدل .