كنت في جدة قبل أيام لأمرٍ ما ، وبعد أن أنهيت مهمتي مبكراً ولبعد وقت رحلة المغادرة من جدة " جواً " قررت أن أذهب " للكورنيش " علّ وقت الانتظار يمضي سريعاً .
قضيت وقتاً ممتعاً على البحر في أحد المقاهي الشعبية أنفقت جله في تصفح وجوه الزبائن وهم يتبارون في نفث دخان الأرجيلة في الأجواء .
حين اقترب موعد رحلتي خرجت من المكان وتوقفت لدقائق ماداً يدي طلباً لسيارة أجرة تقلني للمطار .
بعد انتظارٍ طويل خشيت معه أن يفوتني وقت الرحلة توقفت أمامي سيارة خصوصية " كحيانة " وصوت سائقها يعرض المساعدة ، لم يكن لي بد من الموافقة على الانضمام إليه وقد اقترب موعد إقلاع الطائرة .
بعد أن تبادلنا السلام :
هو : وين تبي ؟!
أنا : المطار .
هو : اركب .
أنا : طيب بكم توصلني ؟! .
هو : اركب يارجال مانختلف إن شاء الله دامك سعودي .
أنا : ماهي مشكلة بس اللي أوله شرط آخره نور .. بكم يعني ؟! .
هو : بـ 30 ريال .. كويس ؟!
أنا : توكلنا على الله .
قائد السيارة شاب سعودي رائع لا تحتاج لمقدمات لكي تصبح صديقاً له .
استغربت من لهجته النجدية وأخبرني بأنه من الرياض وأنه قد وجد رزقه هنا في جده " وعايش على الله ثم هالسيارة " ، سألته عن أهله في الرياض وكيف تركهم !! ضحك بتهكم قبل أن يخبرني بأنه : " without family " !! ماعندي أسرة ياصاحبي أنا من عيال دار الأيتام لقيط يعني !!
صعقني جداً بصراحته أولاً وبإجابته ثانياً حتى أني صمت لبرهه لم أنبس ببنت شفة ، في الواقع لم أكن أعلم ماكان يجب علي أن أقوله في مثل هذا الموقف فخيرت الصمت ، أحس هو بعد هذا الصمت بأنه كان صريحاً أكثر مما ينبغي فجعل " يطري الجو " بحديثه عن الأصوات المزعجة التي كانت تصدرها سيارته وأنه هذا النوع من السيارات الكورية " من برا الله الله ومن جوّى يعلم الله " وأن الناس يشترونها لرخص ثمنها ولكنهم لا يعلمون بأنّ " الرخيص مخيس " ، وأخذ يسرد علي تجاربه في إصلاح أعطالها وأنه يعلم يقيناً مصدر هذا الصوت المزعج ولكنه لا يملك مايكفي من المال لإصلاحه ليقول بعد أن صمت للحظات " خلّها ع الله " .
مضت بنا السيارة تمخر عباب شوارع جدة باتجاه المطار ؛ وبعد أن استوعبت صدمة جملته الأولى قادني الفضول لأن أتعمق في السؤال عن حاله فدار بيننا الحوار التالي :
أنا : طيب الشؤون الاجتماعية مايوفرون لك وظيفة ولا يعطونك مكافأة ؟!
هو "ضحك بسخرية " : يارجال حنا بلانا منهم ماصدقنا نطلع من الدار علشان نرجي منهم مساعدة ، والله والله إنهم سقونا المر ذيك الأيام .
أنا : كيف كانوا يتعاملون معكم ؟!
هو : ماخلوا شي إلا وسووه ضرب كنا ننضرب سجن انفرادي كنا ننسجن لدرجة إننا كنا نهرب من الدار ونهيم على وجوهنا بالشوارع وإذا مسكتنا الشرطة نترجاهم يسجنوننا عندهم ولا يرجعوننا للدار !! .
أنا : لهالدرجة ؟!
هو : ولأكثر من كذا ، كانوا يجيبون " خوال " من منفوحة معضلين يستاجرونهم ويثبتون الأيتام " المشاغبين " على الأرض ويجلدون فيهم جلد بدون رحمة يقعد اليتيم شهر مايقدر يتحرك .
أنا : وكيف طلعت من الدار ؟!
هو : بعد ما تاخذ شهادة " الكفاءة " يسمحون لك تطلع للحياة العامة ، وأنا من أخذت الشهادة طلعت ولا رجعت لهم مرة ثانية .
بعد لحظات صمت كان يسترجع عبرها ذكرياته البائسة قال : طلعت من الدار وكلي أمل أن القادم أجمل لكن خاب ظني كنت في سجن صغير منه طلعت للسجن الكبير والبؤس الأكبر ؛ مابقى دائرة حكومية ما قدمت عليها مابقى شركة ماتوسلت لمسؤلينها يوظفوني لكن من يدرون عنّي وعن وضعي يمسكوني الباب ، قعدت أفكر وأتأمل في حالتي ودائماً يطري عليّ هالسؤال : وش مصبرني على الرياض ؟! لا عائلة ولا وظيفة تربطني بهالمكان ؛ يمكن ربي ماهو كاتب لي الرزق هنا ، يمكن بمكان ثاني ، فقررت الـ " هجرة " إلى جدة .
طلبت منه أن يخفض سرعة السيارة فأنا متعاطف مع كل حرف ينطق به وأود أن أسمع حكايته لآخرها على مهل .. ففعل .
حينها بدأ بسرد قصته في جدة :
في جدة تِهت لأيام قررت بعدها طرق أبواب أرباب الأعمال ولا فائدة ، وبعد جهد جهيد دلني " عيال الحلال " على من قسّط عليّ سيارتي الكورية هذه وبدأت العمل عليها رغم " خصوصيتها " ، ومن ذلك الوقت وأنا أسابق الزمن لتوفير أقساطها ثم أتقاسم أنا " وساهر " مايفيض بعد تأمين القسط الشهري .
لم تكن سيارتي هي العاملة الوحيدة في هذه المدينة فالآف السياراة المرخصة ومئات الالآف غير المرخصة تمشط شوارع المدينة بحثاً عن لقمة نظيفة ؛ فلم يكن أمر الحصول على هذه اللقمة بالأمر السهل ؛ فمسألة الحصول على زبون أشبه ماتكون بالبحث عن إبرة وسط أكوام القش وما أن تجد هذه الإبرة وتمتد يدك للوصول إليها إلا وتجد عشرات الأيدي تزاحمك لذات الغرض .
جدة أم الرخى والشدة لم أجرب رخاءها أبداً ؛ لا أعرف إلا شدتها وهاهي سيارتي " طوق النجاة كما كنت متوهماً " باتت تزاحم " ساهر " على فتات الغلّة بسلسلة أعطالها المتلاحقة ، أزداد يقيناً كل يوم بأنها أم الشدة فقط .
بعد كل هذا العناء قررت البحث عن طوق نجاة آخر ينتشلني من هذه الدوامة ؛ فتفتّق ذهني عن فكرة استحسنتها ورأيت فيها باباً للغِنى والستر !!
سأبحث عن زوجة تنتشلني من هذا الوحل !! ؛ البيوت مليئة بـ " العوانس " أريد إحداهنّ بشرط يسير " أبغاها موظفة " !! .
شرعت بتنفيذ الفكرة ولم يبقى رقم " خطابة " إلا واتصلت به وأعطيته معلوماتي .. وحتى مواقع الزواج في " الإنترنت " سجلت بها وأودعتها بياناتي ؛ وعدوني خيراً وأنهم حال ما يجدون طلبي سيبادرون بالاتصال بي ولفرط حرصي كنت أنا دائماً المبادر بالاتصال .
مضى وقت طويل ولم يتحقق مرادي فلا أحد يرضى بـ " لقيط " زوجاً لابنته .
آمنت بأنّ الشقاء " له ناسه " وقد كتب عليّ ولا فكاك فلم أضيف لهذا الشقاء شقاءً آخر بمحاولتي البائسة للهرب منه .
وبينما كنت غارقاً في بؤسي متفكراً في شقوتي ناقماً على حظي التعيس الذي رماني على رصيف الحرمان عرض عليّ فاعل خير ممن اطلعوا على حالي الزواج من قريبة له ( معاقة ) من بيت خلق وتقوى من " مستوري الحال " !! ؛ لم أجد بداً من الموافقة فهي فرصة لأحصن نفسي وأسترها فمالم يدرك جلّه لا يترك كله " لم يعد المال قضيتي " .
العوز والحاجة هي من جمعتني وإياها ؛ أنا بحاجتي الفطرية لامرأة أسكن إليها ؛ وهي لحاجتها لمن يقوم على شؤونها اليومية ، حتى صار أحدنا " طوق نجاة " للآخر .
أقوم على خدمتها فأنظف البيت وأعد الطعام ومن ثمّ أستودعها الله هي وابنتنا " دانة " لأمضي إلى رحلة البحث عن رزقنا .
يعتصر قلبي ألماً مع كل حرف ينطق به وأشعر بمدى الأسى والحزن مع كل زفرة وتأوه يصدر منه ؛ وجعلت أغالب دموعي وأكفكفها بعيداً عن ناظريه لكي لا يحرج من أساي على حاله .
مع نهاية المشوار وعلى أعتاب المطار التفت إليّ أبو دانة وسألني أن أوصل معاناته هذه للناس لعله يجد من تتحرك نخوته لمساعدته ؛ وها أنا ذا قد فعلت وهذه معاناة الرجل بين أيديكم فمن واجبي الديني والوطني والأدبي أن أنشرها كما طلب والأمل يحدوني بأن نجد سوياً من يمد يد العون له ويوفر مصدر دخل يعيل به أسرته ، فإن كانت الأيام قد أشاحت بوجهها عنه فكونوا أنتم من يحتضنه ويعيد البسمة لثغره بعد سني العوز والحرمان .
للمساهمة في إيجاد حل " الخاص " بانتظاركم .
والله من وراء القصد ، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد .