لم أكن أنوي أن أكتب شيئاً عن هذا الكتاب لا خيراً ولا شرًّا، فلعل صاحبه أن يصل إلى أهدافه الحقيقية من طريق الشر والخير سواء، وللكتاب وصاحبه معي قصة ما كنت لأفشيها للناس، لولا أنَّها تكررت مع غيري فلم تعد سرًّا.
أهدى إلىَّ الرجل كتابه، ومضت فترة لم أكن قد فرغت فيها لقراءته، ثم تفضل فزارني مع صديق كريم عزيز، أحمل له في نفسي ودًّا مكيناً، وسرَّ لي الصديق ثم أعلن أنَّه وافد إليَّ في مهمة. إنَّ حرية الفكر في خطر. فهذا الرجل صاحب الكتاب قد عنَّت له أفكار وآراء جريئة، فأودعها كتابه وخصومه الرجعيين والنفعيين في الحجاز يدسُّون له هناك، وأنَّه على وشك أن يُستدعى لمحاكمته، وربما لشنقه، وأنَّ عليَّ ككاتب يقدِّر رسالة الفكر، أن أشارك في الذود عن حرية الفكر، الموشكة على الاختناق، ولم يكن بدٌّ من أن أتحمس في أول الأمر، فعزيز على صاحب فكر وقلم أن يسمع ويرى خنق حرية الفكر، ولا يتحمس أو يثور، ووعدت أن أفعل في حدود ما أستطيع، وجلس الرجل، وأخذنا بأطراف الحديث -في داري- وشيئا فشيئاً بدأت أشمُّ رائحة في الحديث؛ رائحة ليست نظيفة، هذا الرجل يريدني على أن أفهم أنَّ الإنجليز في الشرق قوم مصلحون لا مستعمرون، وأن وسائلهم في الشرق أرقى وأكرم من وسائل المسلمين عندما استعمروا الشعوب، وليس المسلمين هم الأتراك مثلاً فأجد عذراً، ولكنهم أصحاب محمد بن عبدالله وعمر بن الخطاب، بل القرآن الذي أباح التخريب والتمثيل، وكان ذلك كله ردًّا على ما قلته له من أنَّ الاستعمار لا قلب له ولا ضمير، وأنَّ الحضارة الأوربيَّة الحديثة تستخدم وسائل غير إنسانية في الحروب وغير الحروب. إنَّ المسلمين صنعوا تلك الشناعات وبعدما صنعوها جاء القرآن ليبررها لهم {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر : 5] ولم يرد أن يستمع إلى حديثي عن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم للقواد، ولا إلى وصايا خلفائه الإنسانية الرحيمة، فليكن فقد تكون تلك عقيدة يجاهر بها صاحبها، ويتحمل تبعاتها ونتائجها ثم ماذا؟ ثم يجب أن ننفي العنصر الأخلاقي من حياتنا، فالحياة لا تعرف العناصر الخلقية، ولا قيمة لها في الرقي والاستعلاء، هذا والمسلمون لم يكونوا في أيِّ عصر من عصورهم حتى أيام محمد إلا فساقاً فجَّاراً، وهم الآن في البلاد المحافظة أفسق وأفجر، ولا عبرة بهذا كلِّه، فقد كانوا أقوياء وهم فسَّاق فجَّار؛ لأنهم آخذون بوسائل الحياة المادية، وهم ضعفاء اليوم مع فسقهم وفجورهم؛ لأنهم لا يأخذون بوسائل الحياة المادية، والمعول على هذه الوسائل لا على بِرٍّ أو فجور، فليكن-أيضاً- فقد تكون تلك عقيدة الرجل، وأنا مستعد أن أستمع لكلِّ عقيدة يجاهر بها صاحبها، ويتحمل تبعاتها ونتائجها، وطال الحديث، وأنا بعد هذا كله لا أزال معتزماً أن أقرأ الكتاب، فإن وجدت فيه حرية رأي حقيقية، وفكرة ناضجة قوية دافعت عن الرجل، ولو خالفته في فكرته كلَّ المخالفة، ثم عدت للكتاب، وهنا تحول شعوري إلى اشمئزاز عميق، هذا الرجل ينافق يريد أن يطعن الطعنة في صميم الدين خاصة، ثم يتوارى ويتحصَّن في الدين، وينكر ما قد يفهمه القارئ من بعض النصوص، ومن روح الكتاب كله وراء النصوص، ثم هذا الرجل يسفسط، ولا يأتي بشيء، (دون كيشوت) جديد يطعن في الهواء، ويحارب أفكاراً لم يعد لها وجود منذ خمسين عاماً على الأقل، ثم هذا الرجل يسرق أفكار غيره بالنص، وينكر أن يكون قد قرأ شيئاً عن هذا الأفكار، ثم- وهو الأهمُّ- هذا رجل مريب!
1- (فطبيعة المتدين غالباً طبيعة فاترة، فاقدة للحرارة المولدة للحركة، المولدة للإبداع).
ونرجع لنكرر مرة أخرى أنَّ الدين نفسه لا ذنب له، ولكن الذنب ذنب النفوس البشرية التي لم تستطع أن توجد التعادل بين الكفتين، والتوفيق بين الروحين؛ روح الدين، وروح العمل للحياة، (هكذا طبيعة المتدين غالباً طبيعة فاترة فاقدة للحرارة... إلخ). ثم (الدين نفسه لا ذنب له) وأمثالها في كلِّ موضع كثير، والحديث عن الخلق كالحديث عن الدين، فهو دائماً ضد العنصر الأخلاقي، يراه قيداً معجزاً وضعفاً زريًّا ثم يتوارى بعد هنيهة، وينكر ما تنطق النصوص.
هذا رجل تنقصه الجرأة على أن يقول ما يريد أن يقول, وإذن فلا حريَّة فكر، ولا خطر على حريَّة الفكر، وإنما هي دعوة خبيثة ملتوية ضد التدين, وبخاصة الإسلام وضد الروح الخلقية في النفس والضمير!
2- مَن مِن الشعوب الإسلاميَّة الآن يكتفي في مجاهدة الغربيين بالدعاء؛ بأن يحرق الله بيوتهم ويُيتِّم أطفالهم .. إلخ .
قد تكون هذه بعض دعوات المنابر التقليدية، ولكن الشعوب هذه هي تجاهد وتقاوم وتكافح، وتثور وتسيل دماؤها في كلِّ مكان. ولكن المؤلف لا يرى في المسلمين إلا هؤلاء الداعين على بعض المنابر، ويجيء بكتابه ليقول : إنكم جميعاً سواء، أخطأتم الطريق بالاقتصار على هذا الدعاء .
وهكذا معظم كفاحه لتصحيح أفكار المسلمين، ( دون كيشوت) يطعن في الهواء،
وينازل الأشباح, ويحارب الأفكار التي حاربها الزمن منذ خمسين عاماً أو يزيد .
3- وفصل ضخم- هو أحسن فصول الكتاب- عن الإيمان بالإنسان، وهو عنوان كتاب للأستاذ عبد المنعم خلاف, ولا يشك إنسان في أنَّ مؤلف (الأغلال) انتفع بهذا الكتاب انتفاعاً كاملاً تامًّا، وليس في هذا حرج. ولكن الرجل حينما سمع مني اسم الكتاب أبدى أنه لم يسمع به أصلاً .. لم أحترم هذا التجاهل؛ لأنَّه ليس سمة الباحثين المخلصين.
4- (نؤمل اليوم أن تحمينا بريطانيا وأمريكا من هذا الغزو المحيط الماحق (الغزو الصهيوني) مع أنهما هما الخصمان. إننا نخدع أنفسنا بقوانا الخاصة من غزو الصهيونية وأخطارها, فالصهيونيون مسلحون اليوم بأعظم وأحدث القوى العلمية والصناعية والمالية والفكرية والدولية؟ أما نحن فنكاد نكون مجردين من كل ذلك).
وإذن فعلينا أن نبدأ في الاستعداد لحماية أنفسنا، وإلى أن نستعد يجب أن نحافظ على بقاء قوة إنجلترا بجانبنا لتحمينا من الغزو الصهيوني ! هنا رائحة ما !!!
هذا رجل لا يخاف عليه من اعتقال ولا شنق ولا سواهما, إنَّه رجل يعرف طريقه جدًّا، فلا داعي للخوف الشديد!
وعلمت أنَّ الاسطوانة التي أُديرت على أذني، أُديرت على آذان الكثيرين، واستنهضت بها أريحية الكثيرين, وقد تحمَّس الأستاذ إسماعيل مظهر فكتب كلمة قوية في الكتلة عن الكتاب، وأنا واثق أنَّه لم يقرأه إلى نهايته، وإلا فلن تفوت فطنة الأستاذ إسماعيل أن تتبيَّن في ثنايا الكتاب شيئاً غير نظيف !
وكنت بعد هذا كله على نيَّة أن أسكت لولا أن وجدت بدء ضجَّة مفتعلة، تعطي الكتاب أكثر من قيمته، وتصور المسألة في غير صورتها، ولابد أن الأستاذ السوادي وأنا أعرف أريحيته قد تأثر بالأسطوانة المثيرة، ففتح صدر جريدته للدفاع عن حرية الرأي المهددة بالشنق، لقد كنت على استعداد أن أدافع عن الرأي المخالف لو وجدت شيئاً ذا قيمة, ولو وجدت إيماناً حقيقيًّا بفكرة, ثمَّ لو لم أشمَّ هنا وهناك رائحة شيء ما؛ شيء غير نظيف.