![]() |
هروب في أمكنة هامدة كهذه ، تتلفع الأشياء بدثار الموت ، و يغتني الموت بدلالات وصور جديدة ، ويقترب الإنسان في إحساسه بالضحالة ، من أكثر المخلوقات ضآلة ، وتتراجع إيحاءات البحر، لتستقر على معنى واحد لا يقبل أكثر من تأويل واحد : السفر . أضحت هذه الاستيهامات زائرا ثقيلا يستوطن ذاكرته ، ويلازمه في تسكعاته وجولاته العبثية اليومية التي بدأت تنحصر في أماكن محدودة ، مذ شحت ينابيع أحلام الطفولة ، و تحولت نوبات اليأس إلى ما يشبه اليقين . قادته قدماه كالمعتاد إلى الشاطىء المقفر، و ألقى بجسده المكدود على رمال اصطبغت بلون الوحشة ، و أمسك بحفنة منها بقبضته ، وراقب بعين الأسى انسياب الحبيبات من بين أصابعه ، وعودتها إلى فضائها اللامتناهي . تمثلت في مخيلته صورة عمر منفلت ، جاهد مطولا كي يحصره في ذكرى وضيئة ، فما ظفر بغير السديم . تشاغل بالتحديق في السماء ، باحثا عن غيمة شاردة ، يمكن أن ترطب من جدب الأحاسيس و جفافها ، فلم يصطدم بصره إلا بالفراغ الأزرق الممتد ، و أسراب النوارس الجذلة بحصيلة يومها الوفيرة ، أصبحت صورة هذه المخلوقات تستفز مشاعره ، و توقظ فيه أحاسيس تاعجز و المهانة ، بل كل ما يتراءى حوله يفتح جراحا غائرة في كيانه : حبات الرمل الضئيلة قادرة على الانتقال من منطقة إلى أخرى دون حاجز يحد من حركتها . أغصان الأشجار المنسية يحضنها موج البحر، و يقذف بها بعيدا ، إلى أبعد نقطة تنسى من خلالها هاجس العودة و الانتماء . الأصداف المهملة لا تفتأ تثري قيثارتها بهدير متجدد يناغيه البحر إياها في رحلتي الامتداد و التراجع ... في كل جامد حركة مائجة ، في كل حي نبضات تتفجر حياة ، و أنت قابع في مكانك ، تراوح بين التململ ، و ندب الحظ العاثر ، و الاستمناء على الصور الهاربة ، و أطياف الطيور المستبدة بهذا الفضاء الرحب الشاسع ، فمن قتل روح التوثب في جسدك ؟ و ألجم شكيمة الإنسان فيك ؟ وحد من صيرورة الزمن ؟ ونصب الرتابة حاكما أبديا على نظام حياتك . ستجيب الوجوه التي تعود على رؤيتها كل صيف على هذه التساؤلات ؛ أصحابها رافقوه في رحلة العذاب الطويلة ، تجرعوا معا على امتداد ربع قرن اليأس من زجاجة واحدة ، و لما استشعروا استمراءهم لطعمه المستشري كالسم في عروقهم ، هشموا أقداحهم ، وقرروا الهروب و المجازفة ، استغاثوا بما تبقى لديهم من شجاعة و تهور ، وبحثوا و ساوموا ، و باعوا ما يملكون و ما لا يملكون ، مستهينين بحكم اعتبروها صدئة ، وبنصائح بدت لهم مترهلة مخاتلة ، ثم رحلوا ... ولما استقبلهم عالمهم الجديد ، لم يندموا قط على ما فعلوه ، كانوا على يقين تام أنهم لم يخلفوا وراءهم غير الخيبات و الهزائم . عندما عادوا في أول زيارة لهم ، أحس بنهر الحياة يتدفق مجددا في ملامحهم ، لا ينكر أنهم كانوا يحاولون في الكثير من المرات ، إخفاء بعض المرارة بالأحاديث المسترسلة ، و الضحكات المفتعلة ، و الاندفاع الجارف نحو امتلاك اللحظة ، لكن التغيير كان واضحا لا يقبل المواربة ، لذلك تنبه إلى الخطإ الجسيم الذي اقترفه بجبنه و تخاذله ، وتمسكه بوهم أضحى الآن عذابا . و عندما انفرد بأقربهم إلى قلبه ، تحسس هذا الأخير رغبته في نقل المجهول إلى المعلوم ، فبادره قائلا : رغم ما تسمع عنهم فإنهم أكثر رأفة ... و بعد لحظة صمت استطرد : نحن نتكاثر هناك ، لقد انضم إلينا الكثير ، و لاشك أن التغيير سيأتي من هناك إذا أفلت زمام الأمر هنا ، كما حدث في أماكن أخرى . أجابه و الألم يعتصر نفسه : لم يعد بمقدوري احتمال المزيد ، سأقعل كل ما في وسعي للالتحاق بكم ، سأقهر فكرة الموت و الوهم اللذين حالا بيننا في السابق . قال زميله متظاهرا بترحيبه بنبرة التصميم تلك : حاول ، رغم أن المسألة أنيا يعتورها بعض الصعوبة . آخر استسخف الفكرة ، ونصحه بالتريث ، لأن الظرف الراهن لا يحتمل التهور ، ويكفي ما يشاهد يوميا من صور اللعنة و الخراب ، فالأمكنة بدأت تضيق ، و المشاهد توغل في التماثل . تردده و انهزاميته ستدفعانه مرة أخرى إلى انتظار هبات الزمن الشحيحة ، و تسول الفتات من موائد الأخرين ، أملا في عودة عهد المعجزات ، و إن كان واثقا أن سفرها قد طويت صفحته إلى الأبد . لكن ما يمنع من التصديق أنهم تكاثروا فعلا هناك ، وستقوى حتما شوكتهم ، وستعلوا أصواتهم ، و سيعبرون البحر لتستقر جحافلهم في هذه العدوة المتقدة بغضب متصاعد يحرق أصحابه ، أكثر مما يلحق الضرر بغيرهم ، و سينزعون الكمامات عن الأفواه و يحطمون الأصفاد و الأغلال ، و يفقؤون عيون المخلوقات الأخطبوطية التي عاشت على دمائهم ردحا من الزمن . و لكن أليس من الأفضل لجذوة الحياة أن تتوهج هنا ، أن تتطاير شراراتها لتلفح الوجوه المكتنزة المتشربة بحمرة النعم المغتصبة ، وتحرق المقاعد التي اهترأت عليها مؤخرات من امتلكوا مطولا خيوط لعبة الحياة ... أفاق من تأملاته على صوت هدير محرك قارب يتأهب صاحبه لمعانقة الموج ، و على ظلمة خفيفة بدأت تلف المكان ، فانتثر واقفا ، و اتخذ طريقه نحو زنزانته التي تعود أن يدفن فيها إحباطات اليوم المترادفة ، فاعترضت سبيله نفس المشاهد المألوفة المكرورة : شحاذ يمد إلى المارة في ذلة و مسكنة يدا معروقة نحيلة حفر فيها الزمن أخاديد عميقة ؛ وجمهرة من الصبيان الحقاة الشبه عراة يتقاذفون بين أرجلهم كرة مصنوعة من بقايا أثواب عاصرت أجيالا بكاملها ، و امرأة بدينة مترهلة تلاحق بالسباب أطفالا أفلتوا من حبل رقابتها ، و فتاة غضة في عمر الورود تتابع بنظرات منكسرة سيارة فارهة ، مرقت بجانبها كالسهم ، فغمره إحساس طافح بالغثيان ، و تلاشت آخر فكرة علقت بذهنه ، ووجد نفسه يعود أدراجه بدون تردد هذه المرة إلى ... البحر . |
الساعة الآن 10:32 AM بتوقيت مسقط |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Optimization by vBSEO 3.6.0 Designed & TranZ By
Almuhajir