لكثرة ما قرأت من انتقادات لأصحاب الشبوك وملاك الأراضي البيضاء الفسيحة حاولت أن أتفهم موقفهم وأضع نفسي مكانهم، فلو كان لدي شبك أو سور أسمنتي طويل عريض لتغيرت نظرتي إلى الحياة، وأصبحت أقيس الأمور بميزان مختلف عن هذا الذي يقيس من خلاله الناس هذه القضية المشبكة، وليس من العدل أن نفكر في الموضوع من زاوية واحدة، فقد يكون في زاويتهم شيء لا نعلمه.
نعم، لو كان عندي أرض تتطارد فيها الخيول والدراجات النارية لما فكرت بالطريقة التي يفكر فيها الناس خارج سورها، فهذه الأرض ثروة هائلة خارج حساباتي، ثروة مجمدة يزيد سعرها عاما بعد عام، ويزداد الطلب عليها جيلا بعد جيل، فمهما بذخت وصرفت وبعثرت وسافرت وتاجرت وخسرت، فإن هذه الأرض المجمدة سوف تكون صمام أمان لي ولأولادي من بعدي، لذلك لن تعجبني كل الأطروحات التي تتناول قضية شح الأراضي أو مشكلة (الشبوك) والأراضي البيضاء؛ لأنني صاحب مصلحة كبيرة في بقاء الأحوال على ما هي عليه، لذلك لن أقبل في أرضي الفسيحة لوم الخصوم أو عتاب الأحباب، وسأبقيها على حالها مجمدة محددة مهما مرت السنين، ومهما تعاظمت الحاجة لها في مشاريع تنموية.
ولكن، مهلا، المنطق يقول بأن من يمتلك أرضا بهذه المساحة هو بالضرورة يملك أضعاف أضعافها من الأموال والشركات والبنايات والاستثمارات، فلو لم يكن كذلك لما وصل هذه (المواصيل) وأصبح من أصحاب الأسوار والشبوك، وهذا يعني ــ باختصار ــ أن عدم وجودها ليس له أي تأثير على حياته، فهي مجرد شيء لم يدفع ثمنه تحول إلى سند لا يقدر بثمن، هو لا يحتاج هذا السند على الإطلاق؛ لأن ثروته الطائلة واسمه اللامع ووضعه الاقتصادي أكبر من كل السندات، ولو تبرع بها أو تنازل عنها لصالح مشروع وطني كبير، أو حتى باعها بسعر مقبول لإحدى الجهات التي تحتاجها مثل وزارات الإسكان أو التربية والتعليم أو الصحة، فإن حياته ستبقى في المستوى ذاته، بل سوف تزداد بهاء لأن الثروة أصبحت مقرونة براحة البال والإحساس الجميل بخدمة المجتمع والناس.
قد يبدو قرار التنازل صعبا ومثاليا أكثر من اللازم، ولكنه ــ بالتأكيد ــ لن يكون قرارا مجنونا، هل لديكم شك بأن شخصا مثل بيل غيتس لديه عقل سليم؟، ما الذي يدفعه إذا للتضحية بأجزاء هائلة من ثروته لصالح الأعمال الخيرية لو لم يكن يدرك أن مثل هذه الخطوة تجلب السعادة له وللآخرين، وتعود بالنفع عليه كثري مثلما تعود بالنفع على الفقراء الذين استفادوا من مساعداته، والخطوة هنا أسهل بكثير من كل خطوات بيل غيتس؛ لأن هذه الأرض خارج دوائر الأرصدة والحسابات والأسهم والعقارات، وهي ــ في غالب الأحوال ــ لم تكلف صاحبها فلسا أحمر، لذلك فإن التنازل عنها لن يشكل أي خسارة حقيقية، بينما الإبقاء عليها محبوسة مخنوقة خلف سور أسمنتي قبيح يجعل حياة الآخرين أصعب وأشد مرارة، لذلك لو كان لدي كل هذه الثروة وفوقها شبك لا أعرف عنه شيئا، فإنني سوف أتنازل عنه لصالح وزارة الإسكان، وإلا كيف سأشعر بأنني كريم وأحب وطني وأتمنى الخير لأهلي وناسي؟!