لم يمر أسبوع على مقالي ''خطر الاستمرار في ضخ النقد إلى سوق العقار'' حتى صدر الأمر الملكي القاضي بتحويل جميع الأراضي الحكومية المؤهلة لبناء المساكن في أي جهة حكومية إلى وزارة الإسكان لتتولى تطويرها ومنحها. ولست أدعي وصلا، ولا أقول إنني كنت مطلعا على مثل هذا الأمر الملكي، أو إنني أحطت به علما، لكن (وهذا هو المهم) جاء الأمر الملكي في موعده تماما، فلقد وصلت الأزمة العقارية إلى حد غير مسبوق وجميع الحلول التمويلية لم تزدها إلا رهقا. جاء الأمر الملكي ليضع حروفا على النقاط الموجودة لدينا، لكن ليس هذا فقط، بل يعيد ترتيب الحروف حتى تصنع عبارة حل مشكلة سوق العقار. في هذا المقال أريد أن أوضح ماذا أضاف الأمر الملكي، وكيف سيسهم ـــ لو تم تنفيذه كما يجب ـــ في حل المشكلة العقارية من جذورها، وماذا بقي علينا لننجزه.
لقد كانت مشكلتنا الحضارية منذ انطلقت الدولة السعودية، في توافر الأراضي الصالحة للحياة، كان الجهد منصبّا تماما على الدولة؛ فهي الوحيدة التي يحق لها منح الأراضي وتطوير المخططات السكنية والأحياء، شارك رجال الأعمال في بيع الأراضي السكنية الخام، وأيضا كان على الدولة أن تطورها وتزودها بالخدمات. كان هناك خطأ فادح ارتكبناه جميعا، فقد كنا نعتقد أن الأرض الواسعة الممتدة مناسبة تماما لبناء فلل ضخمة ممتدة أفقيا على طول هذه المساحة الشاسعة وعرضها، لم نهتم كثيرا بحجم المصروفات التي نحتاج إليها لخدمة هذا التوسع، لم يكن أحد منا يفكر بطريقة مختلفة، ففي صحراء واسعة ممتدة مثل هذه التي نعيش فيها هل كان الأفضل لنا بناء أبراج سكنية.
لم يقف أحد ليسأل مثل هذا السؤال، بل تابعنا العمل حتى عادت الدولة ـــ في فترات عجز الميزانية ـــ لتجد صعوبة هائلة في تمويل تطوير الأراضي فقررت ألا يبيع رجال الأعمال أي مخطط إلا بعد تطويره، لكنها في المقابل استمرت في منح الأراضي بلا تطوير، وهذه الأراضي تباعدت عن المركز بشكل لافت؛ ما جعل تطويرها صعبا على الدولة ومكلفا، فبقيت هناك صحراء ممنوحة بلا أمل في تطويرها.
ومع شروط التطوير الصعبة على رجال الأعمال ارتفعت أسعار الأراضي المطورة حتى أصبح سعر الأرض الجاهزة للبناء في مخطط مطور يشكل 75 في المائة من قيمة المبنى السكني (كما أشار إلى ذلك أحد كبار المطورين في تقرير لصحيفة ''الاقتصادية'')، ونتيجة لكل هذه الظروف ومع ارتفاع أسعار الأراضي ارتفعت أسعار الوحدات السكنية الجاهزة بشكل لافت، وأيضا وتبعا لذلك زادت ندرة المخططات المطورة فلقد ضعف الحافز لدى رجال الأعمال في تطوير المخططات طالما يمكنهم جني مماثلة من بناء وتطوير مجمع سكني صغير فيه عدد محدود من الفلل السكنية.
وبعد أن كان مئات من الناس يحصلون على أراض مطورة أو قريبة من المركز ويمكن تطويرها في القريب المنظور، أصبح القادرون على الحصول على فلة (صغيرة وتتصاغر) يعدون على أصابع اليد. توقع البعض أن المشكلة في التمويل فتضخمت الأسعار كلما زادت عروض التمويل، وأشرت في مقالي السابق إلى أن أحد كبار المصارف لديه قائمة من مئات الأشخاص لديهم الأهلية للتمويل والأموال متوافرة لدى المصرف، لكن العقارات غير متوافرة. وللحل، قلت إنه لا بد من عودة الدولة إلى تطوير المخططات والعودة إلى المربع الأول وتخفيف شروط التطوير لزيادة المعروض من المخططات القابلة للسكن. لكني لم أكن متفائلا لدرجة أن يصدر أمر ملكي بهذا الشأن، لكنه صدر فعلا.
عندما أنشأت الدولة وزارة الإسكان ومنحتها 250 مليارا لبناء 500 ألف وحدة، وجدت وزارة الإسكان نفسها أمام المشكلة التي واجهت البنك الذي ذكرته في التقرير، هناك طلبات وهناك أموال مرصودة .. لكن أين العقارات؟ وجدت الوزارة أن الحصول على أراض يعني أن تنفق 250 مليارا فقط في شراء تلك العقارات فكم سيبقى لتطويرها؟
في المقابل هناك أراض متوافرة لدى الأمانات، لا هي طورتها ولا هي منحتها من يطورها، فكان الحل واضحا بوضوح المشكلة ووضوح الأمر الملكي، بوضع كل الأراضي الحكومية المخصصة للسكن في عهدة وزارة الإسكان، وعلى هذه الأخيرة أن تمنح الأراضي للمواطنين بعد تطويرها وتمنح مع الأراضي قروضا للبناء عليها. قبل صدور هذا القرار الحكيم كان من يمنح الأرض غير ذلك الذي يمنح تمويلها، فلم يكن هناك توازن في حجم المنح وحجم التمويل، فإذا توافرت الأرض لم يتوافر التمويل، فكانت هناك صفوف انتظار في صندوق العقار، ثم لما توافرت السيولة لدى الصندوق لم تكن هناك أراض جاهزة للبناء فقام الناس بطلب تأجيل القرض، لكن الآن من يمنح الأرض هو نفسه من سمينحك مالا معها فهل بعد هذا من مشكلة؟ نعم، تتلخص هذه المشكلة في إنفاذ مفاعيل ما صدع به المرسوم الملكي، فالوقت هو التحدي الذي على وزارة الإسكان مواجهته بأقصى سرعة وأشد عزم، فما عاد ثمة مجال للأعذار!
*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.