يورد بعض المفسرين في تفسير أوائل سورة عبس قصة تتلخص بما يلي: روي أن عبد الله بن أم مكتوم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام فقال: يا رسول الله علِّمني ممَّا علَّمك الله وكرَّر ذلك ولم يعلمْ تشاغله بالقوم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت الآيات فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، وقالوا إِنَّ الآية ذكرت كلمة الأعمى للدلالة على أنه أحقُّ بالرأفة والرفق أو لزيادة الإنكار كأنه قال تولى لكونه أعمى.
وأنت ترى من خلال هذه القصة أنهم يثبتون عتاب الله لرسوله فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ في انصرافه إلى القوم وتولّيه عن هذا الأعمى حتى عاتبه الله تعالى وأنكر عليه عمله. ولو أننا نظرنا لوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه من القوم لوجدنا أنَّ هذه السورة "أي سورة عبس" ليس فيها شيء من العتاب، بل إِن موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الزعماء يتطلب مثل هذا الوضع وذلك مما تقضي به السياسة الحكيمة وعمله صلى الله عليه وسلم موافق للمراد الإلهي تمام الموافقة.
فالله تعالى يريد أن يُصوِّر لنا مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جلس فيها يدعو الناس إلى الله وقد تبدَّت من خلال ذلك نفسية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم العطوف على الخلق الحريص على هدايتهم، وأنه صلى الله عليه وسلم يُحدِّث في مجلسه هذا نفراً من زعماء قريش ويدعوهم إلى الله، وإنه لمنصرف إلى هؤلاء الزعماء الذين يرغب في إيمانهم كل الرغبة رجاء أن ينقذهم من الظلمة إلى النور وأن يَلْحَقَ بهم إن هم آمنوا خَلْق كثير، إذ جاءه ابن أم مكتوم وكان هذا الرجل أعمى ضريراً، فلمَّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأعمى مقبلاً نحوه عَبَسَ لا عبسة المحتقر المعرض عنه، وإنما عبسة المهتم بأمر خطير، وما ذاك إلاَّ لشدَّة حرصه على أولئك الزعماء، ثم ولّى صلى الله عليه وسلم وجهه إليهم ومع ذلك فلم ينكسر خاطر ابن أم مكتوم لأنه لا يرى التفاته "لكونه أعمى البصر" وهو يتصدى لدلالتهم لذلك قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}: أي انظر أيها الإنسان إلى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق!. وتصوَّر حال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أولئك النفر واهتمامه بهم لمَّا جاءه ذلك الأعمى!. وعطفه السامي صلى الله عليه وسلم على المؤمن الأعمى لئلا ينكسر خاطره بانصراف الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم دونه، وعبد الله لا يعلم بمن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقع بين أمرين: حنانه على عبد الله بن أم مكتوم وحرصه على هداية القوم.. فما أكمل خُلُقه العظيم صلى الله عليه وسلم!.
ثم أردف تعالى هذه الآية بقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}.. وتفيد كلمة {لعلّه} حصول الزكاة أي الطهارة والذكرى إن كان المريد أي عبد الله بن أم مكتوم مهيِّئاً نفسه ومُحسناً قبل حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد لا تحصل الزكاة والذكرى إن لم يهيِّء نفسه قبل الحضور، فإن كان مُقبلاً واثقاً من إحسانه فهنالك وبما يسمعه منك يصبح من أهل المعروف. {أَوْ يَذَّكَّرُ}: فيصبح ذا معرفة عالية. {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}: فيقوم بإرشاد غيره ودلالتهم، وقد لا يذكَّر ولا يزكَّى وذلك ما تفيده كلمة {لعلَّه}، وهذا الأمر أنت لا تدريه، {وَمَا يُدْرِيكَ}؟. "وحتماً لو كان عبد الله بن أم مكتوم مُهيَّأ النفس إذ ذاك لهيَّأ له تعالى الأسباب ليذكَّر أو يخشى ولجمعه تعالى برسوله الكريم قبل مجيئهم أو بعد انصرافهم من المجلس، ولكنه تعالى جمعه مع هذا الجمع ليُرينا كمال حكمة رسوله صلى الله عليه وسلم وحُسن تصرّفه ليكون لنا قدوة وأسوةً نقتدي به إن أصبحنا مرشدين وحدث معنا مثلما حدث معه صلى الله عليه وسلم "، لذا فإنك انصرفت إلى أولئك الزعماء الذين هم في خطر عظيم لكفرهم رجاء أن يؤمنوا فيهتدوا ويسعدوا فاهتممت بأولئك النفر وأجَّلت الالتفات إلى ذلك المؤمن الذي لا خطر عليه. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ..} "أيها المشركون ويا زعماء قريش". {بِالْمُؤْمِنِينَ}: كعبد الله بن أم مكتوم. {رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. سورة التوبة: الآية (128)
وتفصيلاً لموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبياناً إلى أن عمله مُطابق للحكمة نضرب المثال الآتي فنقول: لنتصوَّر طبيباً كان يُجري عملية جراحية خطيرة لأحد الأشخاص ابتغاء تخليصه من الموت، وفيما هو في عمله ذلك جاء رجل أبلَّ من مرضه وهو يطلب دواءً مقوياً، فهل من المعقول أن يترك الطبيب ذلك المريض صاحب العملية الجراحية الخطرة يستسلم للموت وينصرف إلى غيره؟. وهل من المعقول أن يُعاقب رئيس المستشفى هذا الطبيب على تولِّيه وانصرافه عمّن يتطلّب الدواء المقوي؟. أم أنه يشكره على عمله ويُثني عليه؟. لا ريب أن هذا المثال ينطبق على هذه الواقعة تمام الانطباق.
وإذاً فليس المراد من كلمة {عَبَسَ وَتَوَلَّى} ذلك العتاب الذي صاغوه على ذلك الشكل وصبُّوه في قالب تلك القصة الجاهلية المموَّهة، وليس في هذه الآيات أدنى أثر للعتاب، فما أخطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُعاقبه ربُّه وليس عمله صلى الله عليه وسلم بمستحق اللوم. ولا عصمة إلاَّ لنبي، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم سيِّد الأنبياء قاطبة وهو المعصوم عن الأخطاء صغيرها وكبيرها، إذ لم ينقطع عن الله فالله عاصمه ومؤيده وحافظه من الخطأ والزلل وإِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، وإذا كانت بعض سور القرآن تفتتح في مطالعها بآيات تعرِّف بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جبلت عليه نفسه الطاهرة من خلق حميد لتربط نفس القارئ به وتقبل بمعيته على الله وهنالك تستطيع أن تدرك ما ورد في السورة من المعاني العالية فهل من المعقول أن يبدأ الله تعالى هذه السورة بعتاب أو إِنكار على رسوله؟ لا شك أنَّ العتاب يثبت الخطأ إلى الرسول وبما أنَّ نفس الإنسان مفطورة على حب الكمال ولذلك فالاعتقاد بوقوع الخطأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِنَّما يباعد النفس عنه صلى الله عليه وسلم ويحول دون إقبالها معه على الله وبذلك تعمى بصيرة الإنسان فينحط ولا يفقه شيئاً من السورة.
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}: معرضاً عنك وعن سماع كلام الله ولكنه حضر للمناقشة والتحاور "ففي حضوره فرصة نادرة المثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم". {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}: أي تعرَّضْ بالدلالة طمعاً في إنقاذه. وهذا أمر من الله تعالى لإخراجهم من الظلمات إلى النور، لأن تبليغات حضرة الله لرسوله كلها أوامر {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ..} سورة الحجر: الآية (94). كالقائد العام الذي يُصدر أوامره لقادة الجبهات بقوله: "أنت تتقدَّم بالجبهة الغربية"، وللقائد الثاني: "أنت تصدُّ العدو فقط دون أي تقدُّم" وأنت تباشر الهجوم الجبهي وذاك يُباشر الهجوم الجانبي وهلمَّ جره، فهذه التعليمات كلها أوامر، وجملة {فأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} آمرية دونما شك، فما يبلغه تعالى لرسوله يُعتبر أمراً لا مردَّ له، كذلك كل ما يبلغه الرسول الكريم للمؤمنين فهو أيضاً أمر {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ..} سورة النساء: الآية (64).
.. لأنه أيضاً صلى الله عليه وسلم الآمر الناهي.
والله تعالى يخاطبنا أيضاً على لسان رسوله بصيغة الأمر {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدلِ وَالإِحْسَانِ وإِيتَائِ ذِي الْقُرْبَى..} سورة النحل: الآية (90). نحن نطلب من حضرة الله طلباً أدباً مع العلي الأعلى، وهو تعالى يأمرنا نحن المؤمنين أمراً {كَلاَّ لمَّا يَقضِ مَا أَمَرَه }، كذا يأمرنا رسول الله أمراً بإذن الله {..وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} سورة الأعراف: الآية(199).
فالأعلى يأمر الأدنى والتنزيل من الأعلى جلَّ وعلا على رسوله لأنه تعالى هو الأعلى والرسول يصبُّ في قلوبنا القرآن من سمو علوه علينا لنسمو "أمراً"، ومن تواضع لله ولرسوله رفعه.
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى}: فلا عليك الآن به فقد قمت بواجبك نحوه وأدَّيت ما أنت مكلَّف به. {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}: أي: طالباً الهدى. {وَهُوَ يَخْشَى}: وقد حصلت له الخشية من الله. {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}: "جاءت بصيغة الأمر"، إذ أوصلت قلبه للهدى فهو مؤمن فالتفتْ عنه إليهم ليؤمنوا وحرصاً عليهم. وفي قوله تعالى السابق الذكر لرسوله صلى الله عليه وسلم موافقة على تصرفه صلى الله عليه وسلم الحكيم، وتثبيت وتشجيع له على الاستمرار بهذا النهج بإعطاء الأولية لذوي الخطر الجسيم، وإرجاء من بلغ مبلغ الإيمان حيث دخل بإيمانه في حصن الأمان، لوقت آخر.
وممَّا يؤكِّد ما ذكرناه أمره تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أي آمرك يا حبيبـي بالتلهِّي عنه بغية إنقاذ عبادي الضالين ولأنه اهتدى.. فهؤلاء النفر من صناديد قريش وزعمائها عميان، {.. فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} سورة الحج: الآية (46). فهؤلاء الزعماء عمي البصيرة وعبد الله بن أم مكتوم بصير، مفتِّح البصيرة فلا يصحُّ أن يهتمَّ بالمبصر ويُهمل العميان الذين إذا التفتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما التفت السحرة إلى سراجهم المنير سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم فرأوا كمالات الله وهو سراجهم المُنير لهم سُبل الحقائق، تفتَّحت بصيرتهم بعد عمى فاهتدوا وسعدوا، كما سبق أن تفتَّحت بصيرة عبد الله بن أم مكتوم واهتدى وسعد فهو قد أخذ استحقاقه، أما هم فمحرومون حرموا أنفسهم، والآن حضروا فهل يجوز إهمالهم وتركهم عمياناً والالتفات إلى الناجي المفتِّح الذي نال استحقاقه؟. حاشا لرسول الله أن يظلم فهو العادل، لذا قام بواجبه على خير ما يرام وأثنى عليه تعالى وأقرَّه على تصرُّفه وشجعه على المثابرة على السعي لإخراج العميِ البصائر من الظلمات إلى النور، والالتفات والتولي وإرجاء من يجب إرجاءه ممّا تقتضيه الحكمة نحو الأفضل، وذلك ما يقتضيه المنطق السليم والرأي الراجح. كما لا يخفى علينا ثناء الله تعالى على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} سورة القلم: الآية (4). ما يتنافى مع انتقاصهم لقدره صلى الله عليه وسلم لقولهم أنه أخطأ وعاتبه الله على خطئه وحاشاه صلى الله عليه وسلم من الخطأ والعتاب، ولو كان في قولهم أدنى صحّة، لوجدنا القرآن متناقضاً ولكان فيه اختلاف كثير {.. وَلَو كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}سورة النساء: الآية (82). ألا إنهم هم أخطؤوا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخطئ.
{كَلاَّ}: أي: ليس الأمر بشديد عنايتك وعظيم اهتمامك بهم وبه.
{إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}: أي: إنما أنت مكلَّف بالبيان والتذكير، وإنما عليك البيان وعلينا الحساب.
{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}: أي: إنني أعطيت الخلق الإطلاق، ومنحتهم حرية الاختيار فمن شاء وأقبل ذكر ما تتلوه عليه من البيان وعرف قدر خالقه وموجده وأنه لا فرق عندي بين فقير وغني وضعيف وقوي.. الخلْق كلهم عبادي وقد أعطيتهم مشيئة الاختيار، ولعل الضعيف المقبل يأتي منه خير كثير، فيكون هادياً ومرشداً، ولعل القوي المدبر إن تولى وكفر ولم يصغِ إلى نصحك لا ينتفع منه أحد ولا ينتج عنه خير بسبب إعراضه وكفره وما عليك أيها الرسول سوى التذكرة والبيان وابدأ بالأهم فالمهم، فكل امرئ إنما هو مسؤول عن نفسه وما أنت إلاّ نذير مبين، وبعد بيانك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وإذاً فليس في هذه الآيات كما نرى شيء من لوم ولا عتاب وإنما بيان لحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخلق وشديد اهتمامه بهم كما هي تشريع وبيان، بيان من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكل مرشد من بعده بما أُعطيه الإنسان من حرية الاختيار، وأن هذه الإرادة المُطلقة التي مُنحها الإنسان من حرية الاختيار لا يستطيع أحد أن يوجِّهها إلى جهة ما مهما جَهِدَ وتَعِبَ ما لم تتَّجه هي بذاتها "أي النفس المخيَّرة" فتتعرَّف إلى خيرها من شرِّها.
وما الأنبياء المرسلون ولا الهداة والمرشدون إلا أدلاَّء مذكِّرون. قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا..} سورة البقرة: الآية (148). {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} سورة النساء: الآية (115). أقول: وقد ساق الله تعالى عبد الله بن أم مكتوم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الظرف الذي كان يحدِّث به أولئك الزعماء ليُظهر تعالى لنا هذه الحقيقة، وليعرِّفنا بما أُعطيه الإنسان من حرية الاختيار، وليجعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيِّناً لشريعته كما في قصة زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب زوجة متبناه، إذ أمره الله تعالى بذلك ليُبطل ما كان شائعاً في الجاهلية من سبل الضلال والفساد الناشئ عن التبنِّي.
وبعد أن بيَّن لنا تعالى في الآيات السابقة ما تحلَّى به قلب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم من الرأفة، وما اصطبغت به نفسه صلى الله عليه وسلم من الكمال الإنساني في رحمته بالخلْق عامة أراد تعالى أن يبيِّن لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هداية الإنسان أمر منوط بالإنسان ذاته ومتروك إليه وحده وما على الرسول صلى الله عليه وسلم سوى التذكير والبيان ولذلك قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}: وتريد كلمة (كلا) في هذه الآية أن تخفِّف عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعض ما يجده من الحزن على الخلْق، وأن تسرِّي عن نفسه ما بها من الضيق بسبب عدم موافقة قومه له في الخروج من الظلمات إلى النور والسير في طريق الإيمان.. كما تريد من جهة ثانية أن تبيِّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما منحه الله للإنسان من حرية الاختيار. ويكون مجمل ما نفهمه منها: أي ليس الأمر بتودُّدك ومداراتك وليست هداية الخلق بمتيسِّرة لك ما لم يُقبلوا هم بأنفسهم على خالقهم ويتطلّبوا الهدى بذاتهم. {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ..} سورة القصص: الآية (56). أي: من يريد الهداية لنفسه. فإن شئت أيها الإنسان الهدى وأقبلت على خالقك هداك بنوره وإن أنت أعرضت عن الله فما لك من هادٍ. المصدر: موقع العلامة محمد امين شيخو www.amin-sheikho.com