أكد الكاتب الليبرالي السعودي تركي الحمد أن على الدول العربية أن تقوم بإصلاحات سياسية بإرادتها، وإلا فإنها سوف تُجبر على فعل ذلك في النهاية، لأن الديمقراطية والمجتمع المدني الفاعل هو روح العصر، وكل المنطقة العربية، هي جزء من هذا العالم، حتى وإن رفضته نتيجة ترسبات ثقافية ماضوية.
وأضاف الحمد في حديث أجراه معه الزميل طارق آل شيخان من صحيفة "أوان" الكويتية "أن التسامح والعيش السلمي المشترك بين الأفراد والجماعات، هي قيم بحد بذاتها، حتى لو لم يقل بها دين أو فلسفة"، مشيرا إلى أن "الحوار هو فن الحياة الإنسانية المتحضرة، فمن خلال الحوار يتوصل الناس إلى ما هو مشترك بينهم، وتلك النقاط التي يتفقون عليها، كي تستمر الحياة، وتتحقق إرادة الخالق في عمارة الأرض، من استخلاف الإنسان في هذه الأرض. هذه القراءة للدين هي مفتاح الإصلاح والحوار".
وقال الحمد "إن الأيام كفيلة بكشف التشدد وفضحه، وليس مجرد تقليم أظافر المتطرفين، فهم الذين وضعوا الدين في الأسْر بعد اختطافه، وحولوه من رسالة تسامح ومحبة، إلى دعوة عنف، وتبشير بالخراب في كل مكان. هؤلاء في النهاية، مهما بدا أنهم أقوياء لا يُقهرون، هم ظاهرة عابرة، وسحابة صيف لن تلبث أن تنقشع، مثل سحب صيف كثيرة مرت في تاريخ الإنسان، لم يبق منها إلا ندوب على وجه التاريخ، وذكرى لمن يتذكر، فمن لا يكون مع الإنسان، لن يكون الرحمن معه، مهما طال الزمان".
يذكر أن الكاتب السعودي تركي الحمد شخصية متعددة الميول متنوعة الثقافة، فهو مولع بكتابة الرواية، وملمّ بالشأن السياسي العربي وخفاياه وأسراره، كما أنه يسجل حضورا دائما في الصحافة، إلى جانب كونه باحثا أكاديميا يمارس التدريس في الجامعة، وفي جميع مشاغله هذه يمتلك ما يكفي من الجرأة للدفاع عن آراء تثير سخط التيارات الأصولية والمتشددين، ما جرّ عليه مستويات مختلفة من الهجوم والتجريح حتى بلغ الأمر اتهامه بالردة والتحريض على قتله.
وفيما يلي نص الحديث:
أوان: بدأت بعض الدول العربية ودول الخليج، بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، خطوات يمكن وصفها بالـ"حذرة" نحو الديمقراطية وتأسيس قواعد للمجتمع المدني، هل ترى أن المنطقة متوجهة فعلياً نحو المزيد من الإصلاحات التي تعزز تيار التنوير، ولاسيما في منطقة الخليج، وأن ما تسميه أميركا الحرب على الإرهاب يلعب دورا في ذلك؟
تركي الحمد: إن لم تقم بلداننا بإصلاحات سياسية بإرادتها، فإنها ستُجبر على فعل ذلك في النهاية، لا لأن قوة معينة سوف تدفعها نحو ذلك، وهذا أمر وارد، بل لأن الديمقراطية والمجتمع المدني الفاعل هو روح العصر، وكل المنطقة العربية، هي جزء من هذا العالم، حتى وإن رفضته نتيجة ترسبات ثقافية ماضوية، ولذلك يجب أن تشارك هذا العالم قيمه، أو بعض هذه القيم، وأهمها حقوق الإنسان مع ما يتفرع منها من أنظمة وتشريعات ونُظم وسياسات.
وخلافا لذلك فإن بلداننا لن تترك كجزر منعزلة، في عالم أصبح ليس مجرد قرية واحدة، بل عمارة واحدة بشقق متعددة، وما يجري في شقة ما لابد أن يؤثر على بقية الشقق.
المنطقة متجهة إلى مرحلة من التنوير وإن طال الزمان، ليس لأن هذا الاتجاه هو خيار حاكم أو محكوم، فمتى كان الخيار هو الذي يُحدد وجهتنا؟ ولكن لأن الانتماء إلى عالم بقيم معينة يحتم ذلك، وهنا تكمن كل القصة.
مستقبل الإسلاميين في الخليج
أوان: قلت أخيرا إن المبادرة التي أطلقتها المملكة العربية السعودية لحوار الحضارات والديانات تُشكل تطبيقاً للمبادئ الإسلامية التي نادى بها القرآن، بضرورة مخاطبة الآخر "بالتي هي أحسن"، ولكن وفق هذه القراءة، إلى أي حد يمكن لذلك أن يشكل تيارا مضادا لروح الإرهاب والتعصب التي ينتهجها المتشددون في العالم العربي والإسلامي؟
تركي الحمد: التسامح والعيش السلمي المشترك بين الأفراد والجماعات، هي قيم بحد بذاتها، حتى لو لم يقل بها دين أو فلسفة. وجوهر الأديان بصفة عامة هو المحبة والسلام والتعايش بين البشر، وهو ما تلخصه الآية الكريمة "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" لا لتقاتلوا. وتقول المسيحية "المجد لله في العلى، وفي الناس المسرة، وعلى الأرض السلام" السلام لا السلاح.
الحوار هو فن الحياة الإنسانية المتحضرة، فمن خلال الحوار يتوصل الناس إلى ما هو مشترك بينهم، وتلك النقاط التي يتفقون عليها، كي تستمر الحياة، وتتحقق إرادة الخالق في عمارة الأرض، من استخلاف الإنسان في هذه الأرض. هذه القراءة للدين هي مفتاح الإصلاح والحوار.
أوان: طبعا نحن لا نتحدث عن شريحة المتدينين والالتزام الشخصي بالدين، بل نتساءل عن رموز تيار ديني يتمسك بقراءة متشددة للنص الديني ويروج لأساليب العنف، هل تعتقد أن هؤلاء سيحافظون على نفوذهم الواسع حاليا، أم أن الأيام كفيلة بتقليم أظافرهم وإتاحة الفرصة للتيارات المعتدلة، حسب قول البعض؟
تركي الحمد: "فأما الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"، ودولة الباطل ساعة، أما دولة الحق فإلى قيام الساعة.
نعم الأيام كفيلة بكشف التشدد وفضحه، وليس مجرد تقليم أظافر المتطرفين، فهم الذين وضعوا الدين في الأسْر بعد اختطافه، وحولوه من رسالة تسامح ومحبة، إلى دعوة عنف، وتبشير بالخراب في كل مكان.
هؤلاء في النهاية، مهما بدا أنهم أقوياء لا يُقهرون، هم ظاهرة عابرة، وسحابة صيف لن تلبث أن تنقشع، مثل سحب صيف كثيرة مرت في تاريخ الإنسان، لم يبق منها إلا ندوب على وجه التاريخ، وذكرى لمن يتذكر، فمن لا يكون مع الإنسان، لن يكون الرحمن معه، مهما طال الزمان.
أوان: نتحدث عن هذا وهناك حملة من التيار المتشدد ضد أفكارك وكتاباتك وأعمالك الروائية. من وجهة نظرك، لماذا هذه الحملة التي وصلت إلى حد إهدار دمك؟
تركي الحمد: لأن ما أقوم به هو محاولة، وإن كانت متواضعة، لتحريك السكون من حولنا في عالم متغير، سكون العقل والثقافة والمجتمع، الذي أصبح يميز حياتنا العربية المعاصرة.
نحن نعيش العصر الحديث بأجسادنا، ولكن كل شيء آخر في حياتنا هو ساكن سكون البرَك الآسنة، بحيث تشعر بعض الأحيان بأن لحظتنا الزمنية واقفة عند نقطة معينة، أو أنه أُريد لهذا الزمن أن يتوقف عند لحظة معينة، بحيث لم يعد ماؤنا جارياً، بل آسناً كما الماء في المستنقعات.
المتشددون يحاربون ما أقول وما أكتب لأنه يُمثل حجراً أُلقي في ذلك المستنقع الآسن، فأحدث دوائر، مجرد دوائر، ومجرد تساؤلات معينة، فكان الغضب، لأنهم لا يريدون همسة تعكر السكون، فكيف بدائرة تلو دائرة، هؤلاء لا يريدون للزمن أن يتحرك، ولا للعقول أن تفكر، مع أن الله لم يخلق العقل إلا للتفكير، وإلا ما كان خلقه من الأساس، فالله لا يخلق الأشياء عبثاً، حتى لو كان ذلك ذبابة لا قيمة لها، لابد أن يكون لها قيمة قد نعرفها وقد لا نعرفها، ولكنها لم تُخلق عبثاً.
يقولون عن كتاباتي بأنها "كفريات"، وسلاح "التكفير" هو من أسلحة التدمير الشامل الذي يستخدمه مثل هؤلاء في مواجهة فعل "التفكير"، أو لنقل "الفيتو" في مجلس الأمن لتبسيط الأمر، ضد من يعتقدون أنهم يهددون، ولو بشكل بسيط، هيمنتهم على العقل والثقافة والمجتمع، ووضعهم المهيمن على أنهم المحافظ على المقدس، وحراس الفضيلة، والمفسر الأوحد لإرادة المقدس، فهم يعتبرون أنفسهم "مجلس أمن الدين"، بل مجلس أمن كل شيء، ولهم الحق في إلقاء ورقة الفيتو في أي وقت يشاؤون، وبأي شكل يشاؤون.
أما حكاية إهدار الدم، فهي دليل على العجز، فلا يلجأ إلى التصفية والإزاحة إلا العاجز عن مقارعة الفكر بالفكر، أما القادر فإنه يتميز بالثقة بالنفس، وبالتالي لا يلجأ للتصفية والإزاحة، لأنه واثق من قدرته على دحض فكرة الخصم، وبالتالي إثبات عدم مصداقيته، وبالتالي لا حاجة لعزل أو إزاحة أو تصفية.
أوان: أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان لها تأثير عليك تمثل في كتابتك لإحدى رواياتك "روح الجنة" التي تساءلت فيها عن العوامل التي تدفع الشباب للبحث عن السعادة في الموت وبين القبور، ما الرسالة التي أخذتها بعين الاعتبار ضمن عملك هذا؟
تركي الحمد: ما أردت قوله من خلال هذه الرواية هو أن الدافع لمثل هذا العنف لم يكن دينياً بحتاً، أو أيديولوجياً صرفاً، بقدر ما كان مجموعة من العوامل، بعضها نفسي، وبعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي، في تداخل لإنتاج مثل هذه الظاهرة.
قد يكون الغلاف الخارجي هو المبرر الديني، أو محاربة أميركا وإسرائيل والقوى المتربصة بالإسلام وأهله، وهو تربص تاريخي لا ينتهي أبداً وفقاً لتنظيرات من يدفع هؤلاء للهلاك، ولكن الباطن يحتوي في أعماقه أموراً وعوامل لا علاقة لها بالدين، بقدر ما أنّ التهييج الديني، أو لنقل تديين ما ليس له علاقة بالدين، قد جمع هذه العوامل في بوتقة واحدة، ومزجها في خلطة متفجرة، أُلبست لباس الدين في النهاية، فكانت الجريمة التي أسموها جهاداً.
من الممكن مجيء صدّام جديد
أوان: هل تعتقد بأن غزو العراق من قبل واشنطن نتيجة غير مباشرة لأحداث 11 سبتمبر، بمعنى أن احتلال العراق بمثابة رد من الولايات المتحدة بشكل مباشر أو غير مباشر على تلك الهجمات، وعلى تطرف التيار ديني في المنطقة الإسلامية والخليجية؟
تركي الحمد: بل هو نتيجة مباشرة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي جعلت من أميركا مثل الأسد الجريح الذي يضرب في كل مكان انتقاماً، واعتقاداً بأن كل العالم قد أصبح عدواً له، وخاصة عالم العرب والمسلمين.
بعد حادثة سبتمبر، أُصيبت أميركا بفوبيا حادة، أو وسواس قهري في نفس الوقت، بحيث أصبحت تفسر كل حركة بأنها ضدها، ومن ليس معي فهو ضدي بالضرورة، فكان غزو العراق جزءاً من عملية انتقامية، وإلا لو كان الهدف هو نشر الديمقراطية والإطاحة بدكتاتور العراق، كما كان معلناً كجزء من مبررات الغزو، لما وجدنا حال العراق كما هو اليوم.
للأسف خُدعنا بالتبرير الأميركي المعلن، أو ببعض منه، على أمل أن سقوط الدكتاتور سوف يؤدي إلى بناء عالم عربي جديد، ولكن تبين في النهاية أن الهدف هو الانتقام، والانتقام فقط، دون خطة لما بعد الغزو، فكانت الكارثة العراقية.
أوان: الاتفاقية الأمنية التي وقّعت بين العراق والولايات المتحدة، كيف ترى تأثيرها على كل من الشعب العراقي، وعلى منطقة الخليج؟
تركي الحمد: رغم النواقص، وهي نواقص لن تلبث أن تُعالج مستقبلاً، لا أرى فيها خللاً كبيراً، فهي لا تختلف كثيراً عن الاتفاقيات الأمنية الموقعة بين الولايات المتحدة وبعض دول الخليج. وبصفة عامة، فإني أظن أن مثل هذه الاتفاقية أفضل من حالة الاحتلال الحالية من ناحية، ومن ناحية أخرى، أظن أنها نوع من صمام أمان للحيلولة دون وقوع حرب أهلية شاملة في العراق، فيما لو حدث انسحاب عسكري أميركي دون قيد أو شرط.
وبالنسبة لدول الخليج، فإني أظن أن وجوداً عسكرياً أميركياً في العراق، يُشكل نوعاً من الضمانة في وجه عودة الديكتاتورية إلى العراق، فالفوضى التي سيخلفها انسحاب أميركي من العراق، يعني ضمن ما يعني، عودة صدام حسين جديد، فكما هو معروف في فلسفة السياسة منذ أفلاطون وأرسطو، فإن الفوضى غالباً ما تؤدي إلى الطغيان، ونحن نعلم تماماً ما يمكن أن يفعله الطاغية في منطقة مثل منطقة الخليج.
إيران لا تخيفني
أوان: مرحلة ما بعد 11 سبتمبر وإسقاط النظام العراقي، أعادت بشكل غير مسبوق مخاوف الخليج من إيران، وعاد من جديد مفهوم تصدير الثورة عبر شعارات وتنظيمات وأحزاب وحركات تعمل في المنطقة العربية، فضلا عن قنوات تلفزيونية ومؤسسات ثقافية وما إلى ذلك، أنت كمثقف خليجي هل تعيش مخاوف مماثلة حيال إيران؟
تركي الحمد: لم تنجح إيران في تصدر ثورتها وأيديولوجيتها الطائفية عندما كان زخم الثورة في أوجه، فكيف يمكن أن تفعل ذلك اليوم، وقد أصبح الناس، وخاصة في منطقة الخليج، أكثر وعياً بأهداف إيران السياسية من وراء تصدير الثورة.
إيران تسعى وراء الهيمنة والسيطرة على المنطقة، وهذه هي الإستراتيجية الأساسية، وكل ما بعد ذلك هو مجرد وسائل وتكتيك، سواء كنا نتحدث عن أحزاب الله، أو نشر التشيع السياسي، أو رفع لواء مقاومة إسرائيل وتحرير فلسطين، أو غير ذلك من وسائل قد تتفتق عنها الذهنية السياسية الإيرانية.
وفي النهاية لا يمكن لمثل هذه السياسة أن تنجح لعدة أسباب، فالأيديولوجيا الدينية الإيرانية طائفية الروح والمضمون، وبالتالي فإنها قد تنجح في إثارة النعرات الطائفية هنا أو هناك، ولكنها غير قادرة على تحويل المجتمعات أو اقتلاع السلطات، إذ تبقى الروح الطائفية حائلاً دون كسب القلوب، الذي هو المفتاح الأول لكسب المجتمعات.
أوان: لكن الكثيرين باتوا ينظرون إلى إيران كمشروع ناجح، صناعة عسكرية ومشروع نووي ودور إقليمي فعّال، ألا يعد هذا نجاحا لأساليبها؟
تركي الحمد: التجربة الإيرانية تشكل نموذج فشل أكثر مما هي نموذج نجاح، فالفرد الإيراني أصبح اليوم أكثر فقراً، وأقل دخلاً، وأكثر عزلة في العالم.
لا يغرنكم كون إيران تسعى إلى امتلاك السلاح النووي، فهذا ليس بنجاح، بقدر ما هو دليل على تبديد الموارد على حساب الإنسان، وكوريا الشمالية تملك السلاح النووي مثلاً، على عكس جارتها الجنوبية المزدهرة، ولكن إنسانها جائع، مقموع، مسحوق، يتلقى مساعدات الغذاء من الخارج، فما فائدة السلاح إذا جاع الإنسان!
ولذلك، فإنك إذا أردت تصدير ثورة أو أيديولوجيا، يجب أن يكون لديك النموذج المبهر، أو الجاذب لمن تريد تصدير الثورة إليهم، ولا أجد في النموذج الإيراني أي إبهار أو جاذبية.
من ناحية أخرى، فإننا نعيش في عالم من الدول، وضمن نظام دولي معين، في مجتمع دولي معين. مثل هذا العالم، لن يسمح بأي حال من الأحوال بأن تقع منطقة مهمة وحيوية لاقتصاد هذا العالم في يد دولة تسعى إلى الهيمنة المطلقة، وتطلق نفير الحرب في كل مكان مثل إيران. زبدة القول، هي أن إيران لم تنجح ولن تنجح في الوصول إلى هدفها الاستراتيجي في الهيمنة المطلقة، بل وأشك في استمرارية النظام الثيوقراطي في إيران نفسها بما يحمله من روح طائفية.