27/3/1434 بسم الله الرحمن الرحيم الموضوع: معالم تربوية في وصايا لقمان
إن الحمد لله..................
عباد الله: حكمة الوالد ورشاد رأيه منحة ربانية، وارفة الظل، يانعة الثمر، ينعم أهل البيت بحسن منظرها وصفاء مخبرها وطيب غلتها، ويأرزون إليها في استلهام الرشد وسداد النظر وحسن التوجيه والتعامل الأمثل مع ظروف الحياة ومصاعبها، ومن نفيس القول ما فاهت به أفواه الحكماء من وصايا لأولادهم؛ إذ قد اجتمع فيها كمال المحبة والنصح والعلم؛ فمن القلب منبعها، وعلى الصدق والقناعة والمعرفة والتجربة مبناها، وأحسن تلك الوصايا ما أودعه الله كتابه المسطور ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ ﴾ [يوسف: 3]. وذلكم نبأ وصية لقمان الحكيم لابنه التي نعتها العلماء بأنها بالغة النفع، أخذت بمجامع القلوب في جمال أسلوبها وقوة مضمونها؛ لتستبين من خلالها رؤية المربي الراشد في أولاده حين يُعدِّهم صالحين في أنفسهم مصلحين في مجتمعهم، وتلك غاية كل أب طموح يرجو ثواب ربه ويخشى عقابه، وذاك ما سلكه لقمان في وصيته لابنه، بلغة راقية تجمع بين الحنان والتلطف وعلاقة البنوة الخاصة ﴿ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بُنيّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان] فالتوحيد هو تخليص من رق عبودية العباد لعز عبودية رب العباد، وهو أكبر سبب لانشراح النفس وسعادتها واطمئنانها، وأعظم مخلِّص من وضر الأوهام والمخاوف، ثم تأتي الوصية بالوالدين بعد الوصية بالتوحيد: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان] ، وصيةً تقتضي الإحسان إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهما وإجلالهما، والقيام بمئونتهما، واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه بالقول والفعل قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ" رواه مسلم. ويبقى ذلك الواجب متحتماً وإن كان الوالدان كافرين ملحَّين على ولديهما بالكفر: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان]. ، الوصية التالية ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 16] إحاطةٌ بعلم الله بأصغر شيء في الوجود ﴿ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ﴾ في جوف مصمت ﴿ فِي صَخْرَةٍ ﴾ أو مساحة شاسعة ﴿ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ﴾ ﴿ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ﴾ فلا تخفى عليه، ولا تعجزه، وتأتي بعد ذلك الوصية بالصلاة: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [لقمان: 17]؛ الصلاة هي العلامة الفارقة بين الإيمان والكفر، فالوصية أتت بلفظ الإقامة ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ إذ لا يظهر أثر للصلاة إلا بالإقامة الجامعة بين خشوع القلب والجوارح، لا الأداءِ الذي لا يتعدى حركات البدن الظاهرة، ومضمون تلك الوصايا راجع إلى إدراك وتحقيق غاية العبودية التي لأجلها خلق الله الثقلين ( وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون ) بارك الله لي ولكم في القران الكريم...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين......................
عباد الله: وفي سياق وصايا لقمان لابنه نجد التربية على نفع الآخرين وترك الأثرة؛ فليس من خلق المؤمن الانكفاءُ على ما حازه من فضل وتركُ الآخرين في غيهم سادرين، بل لا بد من أمرهم بالخير ونهيهم عن ضده ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [لقمان: 17]. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق غاصٌّ بالأذى والمكاره؛ لتعارضه مع رغبات الناس وشهواتهم؛ فلابد من توطين النفس على حَسَنِ الأخلاق، فهي من أعظم ما يحمل على قبول الدعوة والتوجيه، والمتأمل لتلك الأخلاق في وصية لقمان يجد أن أصولها الصبرُ والتواضعُ واعتدالُ الأفعال والأقوال، والصبر على الدعوة وتحمّل الأذى فيها من المشاق التي تحتمل بالعزيمة الصادقة: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]. ثم تأتي وصية لقمان لابنه بالتواضع ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، نهاه عن الكبر والعجب، فمجرد إمالة الوجه وعبوسه تكبراً والمشي على الأرض إعجاباً وبطراً كفيل بحصول المقت من الله؛ إذ بهذين التصرفين استُحِقَ وصفُ المختال الذي تكبّر بفعله والفخور الذي تكبر بقوله، وختم لقمان وصيته بلزوم الاعتدال في الأفعال والأقوال فيما يكثر وقوعه ويعظم أثره على المرء، وذلك بلزوم أمرين: السكينة حال المشي: لا عجلةً ولا تماوتاً، إنما مِشيةٌ تدل على الوقار والعقل والهدف المحدد، ولا تحمل على أذى أو تضييع لمقصود، والأمر الآخر: القصد في القول: ففي الغض من الصوت أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته، واما من يزعق أو يغلظ في الخطاب فهو سيء الأدب، أو شاك في قيمة قوله أو قيمة شخصه يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والصراخ، وتأملوا في تنفير لقمان لابنه من رفع الصوت حين عقّب نهيه عن ذلك بأن ذلك من صنع الحمير؛ فلا تليق مضارعتها في ذلك الصنيع، فيا أيها الإباء خذوا بوصايا لقمان العشر وهي : التوحيد، بر الوالدين، مراقبة الله، إقام الصلاة، الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، الصبر على المصائب، عدم التكبر والعجب، السكينة في المشي، غض الصوت. تعاهدوها في أنفسكم لتكونوا قدوة لأولادكم، ثم تعاهدوها فيهم تظفروا بتربية راشدة تقرُّ بها العين وتَبرؤ بها الذمم وتُبنى بها الأمم وتقود لما وراءها من خصال الخير،
اللهم إنا نسألك صلاح النية والذرية.