قصة الملك جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبدالله ،الملك المشهور
بيـدي لا بيد عمـــرو !! - الزباء و جذيمة الأبرش
قال هشام بن محمد الكلـبي عن أبيه قال: كان جذيمة بن مالك ملكا على الحيرة و ما حولها من السواد و ملك ستين سنة و كان به وضح ، شديد السلطان يخافه القريب و يهابه البعيد فنهيت العرب أن يقولوا الأبرص فقالوا: الأبرش.
فغزا مليح ابن البراء و كان ملكا على الحضر و هو الحاجز بين الروم و الفرس فقتله جذيمة و طرد الزباء إلى الشام فلحقت بالروم و كانت عربية اللسان حسنة البيان شديدة السلطان كبيرة الهمة. قال ابن الكلـبي: لم يكن في نساء عصرها أجمل منها ، و كان اسمها فارغة و كان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها و إذا نشرته جللها فسميت الزباء. قال الكعبي: و بُعث عيسى ابن مريم بعد قتل أبيها.
ياقصير الرأي ما رأيت الحزم فيما قلته و لكن النفس تواقة إلى ما تحب و تهوى
و لكل امرئ لا مفر له منه و لا وزر.
فوجه إليها خاطبا و قال له ائت الزباء فاذكر لها ما يرغّبها فيه و تصبو إليه. فجاءتها خطبته فلما سمعت كلامه و عرفت مراده قالت له:
أنعم بك عينا و بما جئت به
و أظهرت له السرور به و الرغبة فيه و أكرمت مفدمه و رفعت موضعه، و قالت:
قد كنت أضربت عن هذا الأمر خوفا أن لا أجد كفؤا
و الملك فوق قدري و أنا دون قدره وقد أجبت إلى ما سأل و رغبت فيما قال،
و لولا أن السعي في مثل الأمر بالرجال أجمل لسرت إليه ونزلت عليه.
و أهدت إليه هدية سنية ساقت العبيد و الإماء و الكراع و السلاح و الأموال و الأبل و الغنم و حملت من الثياب و العين و الورق
فأقبل جذيمة على الجماعة فقال:
ما عندكم أنتم في هذا الأمر؟
فتكلموا بحسب ما عرفوا من رغبته في ذلك و صوبوا رأيه و قووا عزمه. فقال جذيمة:
الرأي للجماعة و الصواب ما رأيتم. فقال قصير: أرى القدر يسبق الحذر ولا يطاع لقصير أمر. فأرسلها مثلاً. و صار جذيمة فلما قرب من ديار الزباء نزل و أرسل إليها يعلمها بمجيئه فرحبت و قربت و أظهرت السرور به و الرغبة فيه و أمرت أن يحمل إليه الأنزال ( قرى الضيف) و العلوفات و قالت لجندها و خاصة لأهل مملكتها و عامة أهل دولتها و رعيتها: تلقوا سيدكم و ملك دولتكم. و عاد الرسول إليه بالجواب بما رأى و سمع فلما أراد جذيمة أن يسير دعا قصير فقال:
أنت على رأيك ؟
قال:
نعم قد زادت بصيرتي فيه ، أفأنت على عزمك؟
قال:
نعم، و قد زادت رغبتي فيه.
فقال قصير: ببقة خلفت الرأي
ليس للأمور بصاحب من لم ينظر في العواقب ، فقد يستدرك الأمر قبل فواته
و في يد الملك بغية هو بها مسلط على استدراك الصواب
فإن وثقت بأنك ذو ملك وعشيرة و مكان فإنك قد نزعت يدك من سلطانك
و فارقت عشيرتك ومكانك و ألقيتها في يدي من لست آمن عليك مكره و غدره
فإن كنت و لابد فاعلا و لهواك تابعا فإن القوم إن تلقوك غدا فرقاً
و ساروا أمامك و جاء قوم و ذهب قوم فالأمر بعده في يدك و الرأي فيه إليك
و إن تلقوك رزدقا واحدا و أقاموا لك صفين حتى إذا توسطتهم انقضوا عليك من كل جانب
فحدقوا بك فقد ملكوك و صرت في قبضتهم و هذه العصا لا يشق غبارها. و كانت لجذيمة فرس تسبق الطير و تجاري الرياح يقال لها: العصا،
فإذا كان كذلك فتملك ظهرها فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها.
فسمع جذيمة كلامه ولم يرد جوابا و سار، وكانت الزباء لما رجع رسول جذيمة من عندها قالت لجندها:
إذا أقبل جذيمة غدا فلتقوه بجمعكم و قوموا له صفين عن يمينه و شماله
و إذا توسط جمعكم فتعرضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به وإياكم أن يفتكم .
و سار جذيمة و قصير عن يمينه فلما لقيه القوم رزدقا واحد أقاموا له صفين فلما توسطهم انقضوا عليه من كل جانب انقضاض الأحدل على فريسته فحدقوا به و علم أنهم قد ملكوه . و كان قصير يسايره فأقبل عليه و قال:
صدقت يا قصير.
فقال قصير: أيها الملك أبطأت بالجواب حتى فات الصواب ، فأرسله مثلا. فقال:
كيف الرأي الآن؟
قال:
هذه العصا فدونكها لعلك تنجو بها . فأنه لا يشق لها غبارا : فأرسلها مثلا
فأنف جذيمه من ذلك و سارت به الجيوش. فلما رأى قصير أن جذيمة قد استسلم للأسر و أيقن بالقتل جمع نفسه فسار على ظهر العصا و أعطاها عنانها و زجرها فذهبت تهوي به هوي الريح فنظر إليه جذيمة و هي تطاول به فقال :
جذيمة ويحه حزم على ظهر العصا : فأرسلها مثلا و أشرفت الزباء من قصرها
فلما مات قالت:
و الله ما وفى دمك و لا شفى قتلك و لكنه غيض من فيض .
ثم أمرت به فدفن . و كان جذيمة قد استخلف على مملكته ابن أخته عمرو بن عدي و كان يخرج كل يوم إلى ظهر الحيرة يطلب الخبر ويقتفي الأثر على خاله فخرج ذات يوم فنظر إلى فارس قد أقبل يهوي به فرسه هوي الريح ، فقال:
أما الفرس ففرس جذيمة و أما الراكب فكالهيمة .
لأمر ما جاءت العصا. فأشرف عليهم قصير فقالوا: ما وراءك؟
قال:
سعى المقدر بالملك إلى حتفه على الرغم من أنفي و أنفه
فاطلب بثأرك من الزباء.
فقال عمرو:
و أي ثأر يطلب من الزباء و هي
أمنع من عقاب الجو .
فقال قصير:
قد علمت نصحي كان لخالك و كان الأجل رائده و الله لا أني ( لا أتوانى )
عن الطلب بدمه ما لاح نجم و طلعت شمس أو أدرك به ثأراً
أو تخترم نفسي ( يأتيني الأجل ) فأعذر.
ثم إنه عمد إلى أنفه فجدعه فقالت : العرب لأي أمرء جدع قصير أنفه : فأرسلها مثلا ثم لحق بالزباء على صورة كأنه هارب من عمرو بن عدي فقيل لها: هذا قصير بن سعد عم جذيمة و خازنه و صاحب أمره قد جاءك. فأذنت له فقالت:
مالذي جاء بك إلينا يا قصير و بيننا و بينك دم عظيم الخطر ؟
فقال:
يا ابنة الملوك العظام لقد أتيت بما يؤتى مثلك في مثله
و لقد كان دم الملك يطلبه حتى أدركه و قد جئتك مستجيرا بك
من عمرو بن عدي فإنه اتهمني بخاله و بمشورتي عليه بالمسير فجدع أنفي
و أخذ مالي و حال بيني و بين عيالي و تهددني بالقتل
و إني خشيت على نفسي فهربت منه إليك ،
أنا مستجير بك و مستند إلى كهف عزك.
فقالت:
أهلاً وسهلاً ، لك حق الجوار و ذمة المستجير. و أمرت به فنزل و أجرت له الأنزال و وصلته و كسته و خدمته و زادت في إكرامه .. و أقام مده لا يكلمها و لا تكلمه و هو طلب الحيلة و موضع الفرص منها و كانت ممتنعة بقصر مشيد على باب النفق تعتصم به فلا يقدر أحد عليها.
فقال لها قصير يوماً:
إن لي بالعراق مال كثير و ذخائر نفيسة مما يصلح للملوك
و إن أذنت لي في الخروج إلى العراق و أعطيتني شيء
أتعلل به في التجارة و أجعله سبباً للوصول إلى مالي
أتيتك بما قدرت عليه من ذلك.
فأذنت له وأعطته مالاً فقدم العراق و بلاد كسرى، فأطرفها من طرائفه و زادها مالاً إلى مالها كثيرا و قدم عليها فأعجبها ذلك وسرها و ترتّب له عندها منزلة و عاد إلى العراق ثانية فقدم بأكثر من ذلك طرفاَ من الجواهر و البز و الخز والديباج ، فازداد مكانة منها وازدادت منزلتها عندها و رغبت فيه ، و لم يزل قصير يتلطف حتى عرف موضع النفق الذي تحت الفرات و الطريق إليه ثم خرج ثالثة فقدم بأكثر من الأولتين ظرائف ولطائف فبلغ مكانه منها و موضعه عندها إلى أن كانت تستعين به في مهماتها و ملماتها ، و استرسلت إليه وعولت في أمورها عليه . و كان قصير رجلاَ حسن العقل والوجه حصيناَ لبيباً أديباَ فقالت له يوماً:
أريد غزو البلاد الفلاني من أرض الشام فاخرج إلى العراق
فأتني بكذا و كذا من السلاح و الكراع و العبيد و الثياب
فقال قصير:
و لي في بلاد عمرو بن عدي ألف بعير و خزانة من السلاح
و الكراع و العبيد و الثياب و فيها كذا و كذا و ما يعلم عمرو بها
و لو علمها لأخذها و استعان بها على حربك و كنت أتربص به المنون
و أنا أخرج متنكراً من حيثي لا يعلم فآتيك بها مع الذي سألت.
فأعطته من المال ما أراد و قالت:
يا قصير المُلك يحْسُن لمثلك و على يد مثلك يصلح أمره ،
و لقد بلغني أن أمر جذيمة كان إيراده و إصداره إليك
و ما تقصر يدك عن شيء تناله يدي و لا يقعد بك حال ينهض بي .
فسمع بها رجل من خاصة قومها فقال: أسد خادر و ليث ثائر قد تحفز للوثبة. فأرسلها مثلا .فلما رأى قصير مكانه منها و تمكنه من قلبها قال:
الآن طاب المصاع.
و خرج من عندها فأتى عمرو بن عدي فقال: قد أصبت الفرصة من الزباء فانهض و عجّل الوثبة.
فقال له عمرو:
قل أسمع و مُر أفعل فأنت طبيب هذه القرحة.
فقال:
الرجال و الأموال .
قال: حكمك فيما عندنا مسلط . فعمد إلى ألفي رجل من فتيان قومه و صناديد أهل مملكته فحملهم على ألف بعير من الغرائر السوداء و ألبسهم السلاح و السيوف و الجحف و أنزلهم في الغرائر و جعل رؤوس المسوح من أسفلها مربوطة من داخل و كان عمرو فيها و ساق الخيل و العبيد و الكراع و السلاح و الإبل محملة، فجاءها البشير فقال: قد جاء قصير. و لما قرب من المدينة حمل الرجال في الغرائر متسلحين بالسيوف و الجحف فقال:
إذا توسطت الإبل المدينة فالأمارة بيننا كذا و كذا فاخترطوا الربط.
ثم أقبلت على جواريها فقالت: أرى الموت الأحمر في الغرائر السوداء. فذهبت مثلاً
حتى إذا توسطت الإبل المدينة و تكاملت ألقوا إليها الإمارة فاخترطوا رؤوس الغرائر فسقط إلى الأرض ألفا ذراع بألفي باتر طالب ثائر القتيل غدراً ، و خرجت الزبّاء تمصع تريد النفق فسبقها إليه قصير فحال بينهما و بينه فلما رأت أن قد أحيط بها و مُلِكت التقمت خاتماً في يدها تحت فصه سم ساعة و قالت: بيدي لا بيدك يا عمرو. و ارسلت مثلاً.
فأدركها عمرو و قصير فضرباها بالسيف حتى هلكت و ملكا مملكتها و احتويا على نعمتها و خط قصير على جذيمة قبراً و كتب على قبره هذه الأبيات يقول: ملك تمتــع بالعســــاكر و القنـــا ، ، ، و المشرفيــــــة عــزه ما يوصــف
فسعـــــت منيتـــه إلى أعـــــداءه ، ، ، و هــــو المتـــــــوج و الحســـام المرهف