الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله الذي جعل في تعاقب الليل والنهار عبرة لأولي الأبصار، أحمده تعالى على نعمه الغزار ، وأشكره على فضله المدرار، واصلى وأسلم على نبينا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه الأخيار، وسلم تسليماً كثيراً.
يجدر بكل مسلم مع بداية أيام العام الهجري الجديد أن يقف مع نفسه ، ليرى كيف كانت علاقته بربه، وبكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمن حوله خلال العام الماضي، يقف وقفة محاسبة مع النفس يعقد خلالها العزم على أن يكون في هذا العام أكثر طاعة وقربا لله - عز وجل - وإتباعا لسنة المصطفى صلى الله
عليه وسلم، يسعى لعمل كل ما فيه الخير لدنياه وآخرته يحاسب نفسه قبل أن يحاسب.
هذا ما حثنا عليه المولى عز وجل في كتابه الحكيم، وأوصنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كان يفعل صحابته – رضوان الله عليهم أجمعين -.
فعلى الجميع أن يخشى اليوم الذي قال عنه رب العباد:
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءوفُ بِالْعِبَادِ}... [آل عمران : 30].
وأن يجعل بداية العام تجديد للعهد على الطاعة والتزام بشرع الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
محاسبة النفس ..
أن على المؤمن الفطن أن يحاسب نفسه حيث أن الطاعة والفروض تمثل رأس المال للمسلم، والمعاصي هي الخسائر، والنوافل هي ال وليعلم أنّ كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشتري بها كنز من كنوز الآخرة..
أن أول ما يجب أن يلفت انتباهنا تلك السرعة الزمنية العجيبة التي مر بها العام، فبالأمس القريب كنا نستقبل العام الذي مضى من أيام قليلة، وها نحن وبهذه السرعة نبدأ أيام عام هجري جديد، وفي هذا دليل واضح على سرعة انقضاء الأعمار وفناء الدار، الأمر الذي يجب إن يجعلنا أكثر حرصا على محاسبة أنفسنا.
والمحاسبة كما قال عنها : «أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في الـمستقبل».
وقال ابن القيم: «المحاسبة أن يميز العبد بين ما له وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود».
{إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً}... [النبأ : 27 - 28].
: وعلى العبد عند محاسبة نفسه البدءُ بالفرائض، فإذا رأى فيها نقص تداركه. والنظر في المناهي، فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية. وكذلك محاسبةُ النفس على الغفلةِ، ويتدارك ذلك بالذكر والإقبالِ على الله.
أيضا محاسبة النفس على حركاتِ الجوارح، وكلامِ اللسان، ومشيِ الرجلين، وبطشِ اليدين، ونظرِ العينين، وسماعِ الأذنين، ماذا أردتُ بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}... [فاطر:5]،
{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}... [غافر: 39].
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول:
"إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح".
حق الله في الطاعة ..
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا}... [النبأ : 29]،
الأسباب المعينة للمحاسبة ..
يجب أن ندرك أن النفس من الأعداء الملازمين للإنسان، تزين له الباطل، وتدعوه إلى عدم العمل والكسل، وتسعى لإيقاعه في المعاصي والرذائل. ويقول: لذلك لزم أهل العقول والنهى محاسبتها، لإيقافها عند حدها، ومنعها عن زيغها، إتباعا للتوجيه الإلهي الكريم، والنداء الرباني العظيم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}... (الحشر : 18)، أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا أدخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، واتقوا الله تأكيد ثان، واعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم، لا تخفى عليه منكم خافية،
ولا يغيب من أموركم شيء.
وقد ذكّر الصحابة الكرام بمحاسبة النفس، ودعوا إلى التأهب للعرض الأكبر، فعمر الفاروق رضي الله عنه يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم"
مذكراً بقول الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}... (الحاقة : 18)، أي تعرضون على عالم السر والنجوى، الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم بل
هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر.
كما كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغله أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة".
فمحاسبة النفس أمر ضروري يعود بالنفع على صاحبه في الدنيا والآخرة، وهكذا كان هدي السلف الأبرار، والسابقين الأخيار، فهذا الحسن البصري يقول: "
إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته"
. وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه"، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.
ويوضح د. أبو طالب، أن من الأسباب التي تعين الإنسان على محاسبة نفسه وتسهل عليه ذلك: معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استراح من ذلك غداً، ويقول: وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً. ومعرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل.
وكذلك النظر فيما يؤول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث. وصحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.
أيضا النظر في أخبار أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح. وزيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدارك ما فاتهم. وحضور مجالس العلم والوعظ والتذكير فإنها تدعو إلى محاسبة النفس. وقيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات. والبُعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه. وذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوفقه لكل خير. وعدم حسن الظن الكامل بالنفس؛ لأن ذلك ينسي محاسبة النفس ويجعل الإنسان يرى عيوبه ومساوئه كمالاً.