ام 1920م: صورة لامرأة افارقية تقيم في بيوت الخيش خارج سور جدة، ويظهر عمران المدينة في الخلفية. للمصور الانجليزي جاي. هاميرتون (من مقتنيات محمود صباغ)
بهدف ترتيب الماضي، وتسليط الضوء على الأحداث المهملة والمغيبة، كتب المدون محمود صباغ في مدونته تحقيقا مطولا حول بيع العبيد في الحجاز، بعد مرور خمسين عاما على القرار الذي جرم هذا الفعل، وأصدر عام 1962م، تحت عنوان ” خمسون عاماً على إبطال الرقيق: قصة تجارة العبيد في الحجاز [1855 -1962م].
وأكد الصباغ في مطلع التدوينة أن ” تاريخ الحجاز فيه مواقع القوة والأبويّة والنبالة والبيروقراطية ومؤسسات العلم والمدارس، تم توثيقه جيّداً دون ان يرافقه توثيق كافٍ لتاريخ صامتيه وفئاته المهمشة”.
وقال : أصدر أول قرار يجرم رق العبيد من قبل الدولة العثمانية عام 1855م، وتعميمه على جميع الأراضي الخاضعة لحكمها والتي كان منها الحجاز، ولكن واجه أهل الحجاز هذا القرار بالرفض، معتبرين بأنه جائز شرعاً، وصلت الأخبار للشريف عبدالمطلب في مدينة الطائف، يقول الصباغ ” أجبر عبدالمطلب، بإيعاز من دلاّلي الرقيق في مكة وتجار جدة، علماء مكة الى اصدار فتوى تناهض قرار الغاء تجارة العبيد. ثم قاد مناوشات عسكرية ضد الحامية العسكرية التركيّة، قبل ان يتقهقر ويتحصّن في صفوف المقاومة طيلة سبع أشهر”
بدأت تنتقل الأخبار للصحف الأروربية، ففي سنة 1877م نشر التايمز اللندنية خبراً عن جدة، حول رجل أسود في العشرين من عمره ترك الرجل الذي يملكه، وتم تسليمه للقائم بالأعمال في قنصلية جدة، والذي بدوره سلمه إلى الوالي التركي، ممثل السلطات العثمانية المحلية في جدة. وقد أغضب تسليمه للسلطات في جدة غضب المسؤوليين عن جمعية مكافحة العبيد بلندن. وكان هذا الحدث الأول للجوء العبيد الى الجهات القنصلية البريطانية في جدة.
ونقل الصباغ عن مستر وايلد الذي كتب في مذكرته التوضيحية الى الخارجية البريطانية في 1877م بان “ممارسة الرق في الحجاز غدت مؤسسة معقدة حيث انها تمارَس منذ عهد النبّوة، وان التدخل بين العبيد وملاّكهم انما هو مسألة شديدة الصعوبة”.. لكنه عاد واستدرك بأن عبيد جدة يجري معاملتهم بشكل انساني وخال من الاهانات ونادرا ما تسجل ضد ملّاكهم اي شكاوي.
اعتبرت اثيوبيا من أكثر الأماكن التي يجلب منها وكلاء عرب العبيد للحجاز عن طريق البحر الأحمر، ويتم البيع في أسواق مكة في مواسم الحج، ويتم إستخدامهم في العمل اليدوي والبناء، والساقية ومرافقين للباعة في الدكاكين ومديرين وصيادين، ويكاد لا يخلو بيت حجازي من العبيد والجواري للمُلاك الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة الزواج الرسمي، بحسب تعاليم المذهب الشافعي، وهن ايضا سراري للأثرياء والمترفين الباحثين عن التسليّة.
لجأ العديد من العبيد إلى القنصليات الأجنبية للحصول على شهادة حريتهم، ونادى القنصل الانجليزي في جدة الأهالي صراحة باطلاق سراح عبيدهم في نوفمبر 1891م.
وتعتبر “دكة الرقيق” مؤسسة تجارة العبيد في مكة، يقول صباغ “كان المشتري يفحص الجواري من رأسها إلى أخمص قدميها كما تفحص البهائم، فاذا تحقق من لباقتها ولياقتها سامها من البائع، ويقوم المشترون عادة بعدة اختبارات للرقيق قبل اتمام عملية الشراء، فيسألونهم ان كانوا يتحدثون العربية، ويسألونهم بعض الأسئلة الشخصيّة، ثم يقومون بالكشف عن علامات الاصابة بالجدري” ويضيف حول عقوبة العبيد نقلا عن المستشرق هوروخرونيّه “يضجع العبد على بطنه، ويرفع قدميه للسماء، فيما ينزل المالك او احد رجاله بعصا “الفَلَكَة” على اسفل قدميّه، فيما يصرخ العبد معلناً التوبة، وطالباً العفو بإسم الرسول” لكن هوروخرونيه يعود ويستدرك ان هذه العقوبة هي نفسها التي يستخدمها أهالي الحجاز ازاء ابنائهم المشاغبين، نافياً اي شبهة تمييز.
وفي عام 1908م أصدر الدستور العثماني، وشددت السلطات إجراءاتها لإيقاف تجارة العبيد في ولاية الحجاز “صدر فرمان، نُشر في صحيفة تقويم الوقائع (Taqvim-i Veqayi) في الثلاثين من اكتوبر 1909م بالتأكيد على منع تجارة العبيد والتأكيد على حريتهم اياً كان لونهم او جنسهم – بحسب الدستور – وان اي مخالفة لذلك يُعد بمثابة جريمة يُعاقب عليها القانون” ولكن بحسب تقرير وزارة الخارجية البريطانية ففي عام 1910م مازالات هذه التجارة مستمرة في الحجاز . وعادت التجارة للازدهار من جديد مع قيام الثورة العربية الكبرى التي انطلقت من مكة في 1916م ضد الاتحاديين، وارتفع سعر العبد الذكر مع حلول عام 1921م في جدة الى ستين جنيهاً استرلينياً. اما العبدة المؤهلة بالقيام بأعباء المنزل فوصل سعرها الى مائة جنيه استرليني.
وأثناء حكم الشريف حسين قبل إنضمام الحجاز للدولة السعودية، كان يشدد على العبيد الذين يلتجئون للقنصلية الأجنبية، ولكن في عام 1925م بعد نفي الشريف حسين وتقليد علي الشريف الحكم في الحجاز طلب علي من القنصل البريطاني التوقف عن استقبال اللاجئين، مع وعده بإبطال العبودية تماماً بعد إنتهاء الحرب مع آل سعود، ولكن الخارجية البريطانية كانت تتوقع إنضمام الحجاز للدولة السعودية، ولم تعطِ بالاً لما قاله الشريف، وأفادت بأن القنصلية مستمرة في إستقبال اللاجئين.
في 21 ديسمبر 1925م سُلمت مفاتيح جدة سِلماً الى السلطان ابن سعود، وبعدها بأيام اُعلن عن تأسيس الكيان الجديد “مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها” وهو بداية العهد السعودي على كامل أراضي الحجاز، وفضل ابن سعود بعد مناقشتة للقنصل البريطاني أن يتم المنع من بيع العبيد بالتدريج، محاولة لكسب الجميع، وكان أول مطلب رسمي يوم 25 مايو 1929م، باعتاق عثمان موسى، وتسليمه لعمه .
يقول بوند، السفير البريطاني في جدة في رسالة للخارجية البريطانية في السادس من مارس 1930م “لقد تقلّصت نسبة العبيد في جدة في السنوات الأخيرة بشكل مطرد، هذا يعود الى كون كثير من التجار المعروفين انفتحوا على روح العصر وباتوا يمارسون أشكال تجارة اكثر عصرية وملائمة قانونيا وقطعوا مع الاشكال التقليدية”.
يقول صباغ “برز في الاربعينات الميلادية نفر قليل من اعيان جدة، كانوا رقيقاً في اصولهم.، حتى انه كان من النادر ان تجد اي عائلة تجارية دون ان تجد تميز احد افرداها بلون اسمر، يحمل اسمها ويعمل في ادارة بيتها التجاري” ويضيف ” وآخر مقر لبيع العبيد في جدة كان في منطقة حوش الهواشم – داخل سور المدينة القديم، و أحد مكافحي تجارة العبيد في ساحل جيبوتي هو السيّد علي العطاس، وهو أخ السيّد حسين العطاس من تجار وأعيان جدة، وكان يعتبر ان من لا يُخطئه ضميره بحمل العبيد والمتاجرة بالبشر سيقع في كل محظور آخر”
وأخيراً في السادس من نوفمبر 1962م اصدر الأمير فيصل بن عبدالعزيز، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي، برنامجه الاصلاحي المعروف بـ (النقاط العشر)الذي قضت نقطته العاشرة بالغاء الرق مطلقاً، وتحرير جميع الأرقاء وتعويض مُلاكهم.
ويختم صباغ تدوينته ” هكذا تجلّت شمس الكرامة الانسانية فأنارت من دياجي الجزيرة العربية من جديد.. وكما قيل: ان للباطلِ جولة ثم يضّمحل”
يذكر أن صباغ اعتمد على عدة مراجع في المعلومات التي أوردها في تدوينته، أولها أرشيف وزارة الخارجية البريطاني، ومواد أرشيفية صحفية تعود لبعض وكالات الاخبار العالمية والصحف المحلية، ومؤلفَات لمؤرخين محليين مثل أحمد زيني دحلان وعبدالله غازي أو رحّالة مكثوا بالحجاز مثل المستشرق الهولندي سنوك هوروخرنيه والضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين أو عرب مهجريين مثل أمين الريحاني، وبعض مذكرات القناصل المتعاقبين على جدة.
وفي احصاء لعام 1931م.. قُدر عدد العبيد في السعودية بأربعين ألفا، وُزعت جغرافيا كالتالي:
الرياض وبادية نجد وخصوصا واحات الاحساء والبريمي: عشرون ألفاً. [88]
وانحصرت اجناس العبيد في هذه الفترة بين سودانيين او اثيوبيين حاميين او تكارنة.. ونساء يمنيات. وعند اهالي الحجاز كان يوجد نفر قليل من جواري وعبيد جاويين وهنود وسوريين وماليزيين.