الحمد لله الذي جعل الدنيا محل عبور وممر ، ولم يجعلها دار بقاء ومستقر.
فإن عُلم ذلك واستقر في القلب ؛
علم أن الدنيا دار ابتلاء كما أن الآخرة دار جزاء .
لذا أُمرنا فيها بالصبر ، و رتب على ذلك عظيم الأجر .
فقال في محكم الكتاب ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ).
واعلم رعاك الله أن الصبر أقسام :
فصبر على الطاعة ،
وصبر عن المعصية ،
وصبر على البلاء .
وأقلها شأناً - إن صح التعبير - القسم الأخير . ومع ذلك يعجز عنه كثيرون، ويسقط غالبنا عند المحك!!
وبيان ذلك : أن القسمين الأولَين يدخل فيهما اختيار العبد، من ناحية المصبور عليه أعني : ( الطاعة و المعصية ).
قال تعالى ( وهديناه النجدين ) وقال ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ).
أما القسم الثالث فلا دخل لمشيئة العبد في المصبور عليه أعني : ( البلاء ) ..
لأن ذلك من قدر الله وقضاءه .
واسمح لي في هذه العجالة أن نخوض معاً في القسم الأخير .
إذا سلّمنا - يارعاك الله - بما سبق كوننا في دار ممر وبلاء ؛
وجب الصبر عند نزول القضاء .
قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) ،
فعن أنس - رضي الله عنه - قال: مر النبي صلي الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: أتقي الله واصبري . فقالت : إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه. فقيل لها: إنه النبي صلي الله عليه وسلم. فأتت باب النبي صلي الله عليه وسلم ، فقالت: لم أعرفك. فقال: ( إنما الصبر عند الصدمة الأولي ). ( متفق عليه ).
وقف بالله قليلاً وتأمل حولك ، كيف حالنا عند وقوع البلاء،
وما هو رد فعلنا عند الابتلاء !!
قد يصلني خبر موت عزيز إلى القلب قريب . كأخ أو ابن أو أم أو زوجة أو صديق !!
ولا بد أن ذلك حاصل ؛
لأني آمنت قبلُ أني في دار ابتلاء ،
فإما أن اُبتلى بفقد عزيز أو يُبتلى عزيزٌ بفقدي، ليس عن ذلك مناص !!
فإن كان ذلك كذلك فاصبري يانفسُ وتيقني أن ذلك حاصل ولا بد !
واجعلي الصبر علاجه والاسترجاع سراجه .
واعلمي أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى .
فإما أن تصبري صبر الكرام ، أو تصبري صبر الأنعام .
وأنت تدركين الفرق بينهما !!
ثم اعلم - رحمني الله وإياك - أن بين الصبر والحلم ارتباط ،
معقود بينهما بوثيق الرباط .
وذلك أن الحلم صبر ومغفرة ، وإن لم يك ثمّ معذرة .
ومن لطيف العبارة وجميل الإشارة ،
قوله تعالى في الصبر ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ).
بينما قال في الحلم الذي هو صبر ومغفرة ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ).
فزاد اللام لزيادة المقام ..
فأين أنت يا نفس من ذلك ، اسأل الله لي ولكَ الثبات !!
وأختم بقصة ظريفة قد تشد من عزم القاريء وتوطنه عند كل طاريء :
سُئل الأحنف بن قيس ، ممن تعلمت الحلم ؟
قال : من قيس بن عاصم المنقري ،
قال : كنت جالساً معه ذات يوم في فناء داره، وكان متكئاً يحدث قومه،
فجيئ له برجل مكبل الوثاق وآخر مقتول،
وقيل له هذا بن أخيك قد قتل ولدَك.
قال قيس بن اﻷحنف : فوالله ما اعتدل وما قطع حديثه حتى أكمله.
ثم نظر إلىا بن أخيه وقال له في هدوء : لقد رميت نفسك بسهمك وقتلت بن عمك،
والتفت إلى ابن ثان له وقال : قم حل وثاق بن عمك وادفن أخاك،
واذهب ﻷمه تعزيها وادفع لها مائة ناقة دية ابنها فهي غريبة عنا !!
ثم اعلم أنهم كانوا في جاهلية .. أما نحن فأين نحن ونحن في الإسلام .
ثم اعلم يارعاك الله : أن الحلم بالتحلم ، والعلم بالتعلم !
ودع عنك من قال : أبو طبيع ما يغير ...