inShare
13
يحدث الانكماش (Deflation) عندما يصبح التغير في الأسعار سالبا، بمعنى أن المستوى العام لأسعار السلع والخدمات ينخفض ( معدل التضخم للسالب أي أقل من 0.0%).
وعلى عكس زيادة التضخم يؤدي الانكماش إلى رقع القيمة الشرائية للنقود، وهو ما يسمح للمواطنين بشراء المزيد من السلع والخدمات بنفس المبلغ من المال.
ويعتبر العديد من الاقتصاديين أن الانكماش هو أهم مشكلة تواجه الاقتصادات الحديثة، وخاصة حين يكون غير متوقع.
وفي هذا التقرير سيتم استعراض مخاطر الانكماش، والمرور بشكل سريع على أزمة الاقتصاد الياباني طويلة الأجل مع هذه الظاهرة والتي لم يستطع الإفلات منها حتى اليوم.
- هناك في الواقع ثلاثة أسباب مختلفة تدعو للقلق بشأن الانكماش، اثنان منهما على جانب الطلب والآخر على جانب العرض.
- أولاً وقبل كل شيء: عندما يتوقع المستهلكون انخفاض الأسعار، فإنهم يصبحون أقل استعداداً للإنفاق، وبالتحديد أقل استعداداً للاقتراض. وفي بيئة مثل هذه تصبح مجرد حيازة الأموال استثماراً ذا عائد حقيقي إيجابي. وعندما يحدث ذلك يستمر الاقتصاد في التراجع لأن المستهلكين يتوقعون استمرار الانكماش، وبالفعل يستمر الانكماش لأن الاقتصاد يتراجع، وبهذه الطريقة يدخل الجميع في ما يشبه الحلقة المفرغة.
- هناك أثر ثان: بصرف النظر عن التوقعات المستقبلية للانكماش، يؤدي انخفاض الأسعار إلى تدهور وضع المدينين من خلال زيادة العبء الحقيقي لديونهم. فكما أشار الاقتصادي الأمريكي "إيرفينج فيشر" منذ فترة طويلة، من المرجح أن يضطر المدينون إلى خفض حجم إنفاقهم عندما ترتفع عبء ديونهم، في حين أنه من غير المتوقع أن يزيد الدائنون إنفاقهم بنفس المقدار.
- أخيراً، في ظل الاقتصاد الانكماشي، من المفترض أن تنخفض الأجور بنفس الوتيرة التي تنخفض بها الأسعار، ولكن ذلك المنطق يصطدم بحقيقة أن انخفاض الأجور الاسمية أمر صعب جداً، بمعنى أن الاقتصادات بشكل عام لا تستطيع خفض الأجور إلا إذا كان لديها إلى جانب الانكماش بطالة جماعية، وذلك حتى يكون العمال يائسين بما فيه الكفاية لقبول انخفاض أجورهم، كما حدث في إستونيا ولاتفيا.
اليابان والفخ الذي لا تستطيع الخروج منه منذ أكثر من 25 عاماً
- منذ أواخر التسعينيات وتُعرف اليابان على الصعيد العالمي بكونها اقتصاد يكافح من أجل التغلب على الانكماش الذي طال أمده بسبب عقلية المواطنين من ناحية والسياسات النقدية غير الملائمة لمسؤولي البنك المركزي من ناحية أخرى.
- في الحقيقة لا يحتاج محافظ بنك اليابان "هاروهيكو كورودا" إلى إقناع الشعب الياباني بأن الانكماش يجلب مشاكل اقتصادية، وإنما يحتاج لإقناعهم بأن ارتفاع الأسعار سيفيد الاقتصاد وسينعكس إيجابياً على حياة الجميع، وهي في الواقع فكرة يصعب على أي أحد بيعها لليابانيين أو لغيرهم.
- بنك اليابان هو أول بنك مركزي في العالم يقوم بخفض سعر الفائدة الرئيسي إلى ما يقرب من الصفر في عام 1999، وذلك قبل وقت طويل من البنوك المركزية في أوروبا والولايات المتحدة، والتي لم تقدم على هذه الخطوة إلا بعد أزمة 2008.
- في أبريل/نيسان من العام 2013 كشف المحافظ الجديد للبنك المركزي الياباني "هاروهيكو كورودا" عن برنامج التيسير الكمي، وأعلن أن معدل التضخم في اليابان سيصل إلى النسبة المستهدفة (2%) في غضون عامين. وتمثلت التدابير الرئيسية في إطار هذا البرنامج في شراء قدر معين من الأصول المختلفة.
- كما قام البنك في ذلك الوقت بتجربة سياسة أسعار الفائدة السالبة والتحكم في منحنى العائد، وكان من المتوقع أن تؤدي تلك التدابير إلى تسريع نمو معدل التضخم من خلال خفض أسعار الفائدة طويلة الأجل، وأيضاً تصحيح أسعار الأسهم والين الياباني.
- اليوم وبعد مرور 4 سنوات، تم بالفعل تصحيح قيمة الين المبالغ فيها، وأسعار الأسهم المقيمة بأقل من قيمتها، ولكن تأثير تلك السياسات على الاقتصاد الحقيقي لم يكن قوياً كما كان متوقعاً. فبالمقارنة مع الربع الأول من عام 2013 انخفض الاستهلاك الحقيقي للأسر اليابانية خلال الربع الأول من عام 2017.
- كما بقي معدل التضخم الأساسي بالقرب من الصفر تقريباً، وهو ما يعكس الطلب الكلي الضعيف. ورغم ذلك من المتوقع أن يرتفع معدل التضخم في عام 2017 بسبب عدم الانعكاس الكامل لتراجع أسعار النفط على مستويات الأسعار، ولكن في نفس الوقت من غير المرجح أن يقترب البنك المركزي الياباني ولو قليلاً من النسبة المستهدفة البالغة 2% في المستقبل المنظور.
المركزي يقف عاجزاً أمام عقلية المستهلكين اليابانيين
- أخطر خصائص الحالة اليابانية هو أن العقلية الانكماشية (Deflationary mindset) أصبحت تسيطر على المستهلكين بل والشركات نفسها، فبغض النظر عن المستوى المنخفض الذي قد يصل به المركزي الياباني بأسعار الفائدة على الودائع يمتنع هؤلاء عن رفع حجم إنفاقهم، وهو ما دفع بعض الاقتصاديين للاعتقاد بأن أسعار الفائدة السالبة تدفع المستهلكين القلقين إلى الادخار في الأوقات الاقتصادية المحفوفة بالمخاطر وليس إلى الإنفاق.
- ببساطة أصبح اليابانيون يرفضون الاستهلاك، حيث إن هناك أعداداً غير قليلة من الشباب الياباني على الرغم من تراجع أسعار السكن يفضلون العيش معاً في غرف مشتركة، بل إنه في الآونة الأخيرة ظهرت على الساحة ظاهرة جديدة في اليابان عليها إقبال شديد وهي وجبات من لحوم البقر سعرها ثلاث دولارات فقط.
- في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وجد مسح أجراه بنك اليابان أن 5% فقط من المستطلعة آراؤهم هم فقط من يخططون لزيادة حجم إنفاقهم، بينما أشار 45% منهم إلى أنهم ينون خفضه.
- المأزق الذي تعاني منه اليابان اليوم لم يكن من الممكن مجرد تصوره خلال فترة ازدهارها في الثمانينيات، حين كان اليابانيون يمتلكون أغلى وأشهر المشاريع العقارية في نيويورك، بينما كانت أسعار العقارات في طوكيو من بين الأغلى في العالم.
- لكن منذ ذلك الحين وبسبب لعنة "التضخم السالب" خسرت اليابان مكانتها كثاني أكبر اقتصاد بالعالم لصالح الصين التي شهدت نموا استثنائياً، وتراجع سوق الأسهم الياباني إلى ما يقرب من نصف ذروته في عام 1989، وانخفضت أسعار العقارات، وتجلس حالياً الشركات اليابانية على أكوام من السيولة النقدية تناهز التريليوني دولار، لا تبرح مكانها، ووصلت ديون البلاد إلى 230% من الناتج المحلي الإجمالي.
- وأخيراً، يبقى السؤال الذي يقف البنك المركزي الياباني أمامه عاجزاً لا يملك إجابة مقنعة عليه للمواطنين: لماذا أشتري اليوم ما يمكن أن أشتريه غداً بسعر أرخص؟