وفي سنن ابن ماجه مرفوعاً من حديث أبي هريرة « من لعق العسل ثلاث غدوات
كل شهر ، لم يصبه عظيم من البلاء
في الصحيحين : من حديث أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري ، « أن رجلاً أتى
النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أخي يشتكي بطنه : وفي رواية : استطلق بطنه
، فقال : اسقه عسلاً ، فذهب ثم رجع ، فقال : قد سقيته ، فلم يغن عنه شيئاً. وفي
لفظ : فلم يزده إلا استطلاقاً مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك يقول له : اسقه عسلاً ،
فقال له في الثالثة أو الرابعة : صدق الله ، وكذب بطن أخيك . «
وفي صحيح مسلم في لفظ له : « إن أخي عرب بطنه « ، أي فسد هضمه ، واعتلت معدته
والعسل فيه منافع عظيمة ، فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها ،
محلل للرطوبات أكلاً وطلاءً ، نافع للمشايخ وأصحاب البلغم ، ومن كان مزاجه
بارداً رطباً ، وهو مغذ ملين للطبيعة ، حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه ،
مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة ، منق للكبد والصدر ، مدر للبول ، موافق للسعال
الكائن عن البلغم ، وإذا شرب حاراً بدهن الورد ، نفع من نهش
الهوام وشرب الأفيون ، وإن شرب وحده ممزوجاً بماء نفع من عضة الكلب الكلب
، وأكل الفطر القتال ، وإذا جعل فيه اللحم الطري ، حفظ طراوته ثلاثة أشهر ،
وكذلك إن جعل فيه القثاء ، والخيار ، والقرع ، والباذنجان ، ويحفظ كثيراً من
الفاكهة ستة أشهر ، ويحفظ جثة الموتى ، ويسمى الحافظ الأمين . وإذا لطخ به
البدن المقمل والشعر ، قتل قمله وصئبانه ، وطول الشعر ، وحسنه ، ونعمه ، وإن
اكتحل به ، جلا ظلمة البصر ، وإن استن به ، بيض الأسنان وصقلها ، وحفظ صحتها
، وصحة اللثة ، ويفتح أفواه العروق ، ويدر الطمث ، ولعقه على الريق يذهب البلغم
، ويغسل خمل المعدة ، ويدفع الفضلات عنها ، ويسخنها تسخيناً معتدلاً ، ويفتح
سددها ، ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة ، وهو أقل ضرراً لسدد الكبد والطحال
من كل حلو .
وهو مع هذا كله مأمون الغائلة ، قليل المضار ، مضر بالعرض للصفراويين ،
ودفعها بالخل ونحوه ، فيعود حينئذ نافعاً له جداً .
وهو غذاء مع الأغذية ، ودواء مع الأدوية ، وشراب مع الأشربة ، وحلو مع الحلوى
، وطلاء مع الأطلية ، ومفرح مع المفرحات ، فما خلق لنا شئ فى في معناه أفضل
منه ، ولا مثله ، ولا قريباً منه ، ولم يكن معول القدماء إلا عليه ، وأكثر كتب
القدماء لا ذكر فيها للسكر البتة ، ولا يعرفونه ، فإنه حديث العهد حدث قريباً ،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الريق ، وفي ذلك سر بديع في
======= حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل ==========
إذا عرف هذا ، فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل ، كان استطلاق
بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة
في نواحي المعدة والأمعاء ، فإن العسل فيه جلاء ، ودفع للفضول ، وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة ، تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها ، فإن المعدة لها خمل
كخمل القطيفة ، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء ، فدواؤها
بما يجلوها من تلك الأخلاط ، والعسل جلاء ، والعسل من أحسن ما عولج به هذا
الداء ، لا سيما إن مزج بالماء الحار
وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع ، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار ،
وكمية بحسب حال الداء ، إن قصر عنه ، لم يزله بالكلية ، وإن جاوزه أوهى القوى
، فأحدث ضرراً آخر ، فلما أمره أن يسقيه العسل ، سقاه مقداراً لا يفي بمقاومة الداء
، ولا يبلغ الغرض ، فلما أخبره ، علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة فلما
تكرر ترداده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء ، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء ، برأ ، بإذن الله ، واعتبار
مقادير الأدوية ، وكيفياتها ومقدار قوة المرض مرض من أكبر قواعد الطب .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : « صدق الله وكذب بطن أخيك «إشارة إلى
تحقيق نفع هذا الدواء ، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ، ولكن لكذب
البطن ، و كثرة المادة الفاسدة فيه ، فأمره بتكرار الدواء لكثرة المادة
وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء ، فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم
متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة ، وكمال العقل . وطب غيره
، أكثره حدس وظنون ، وتجارب ، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب
النبوة ، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به ، وكمال التلقي
له بالإيمان والإذعان ، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم يتلق هذا
التلقي - لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها ، بل لا يزيد المنافقين إلا رجساً إلى
رجسهم ، ومرضاً إلى مرضهم ، وأين يقع طب الأبدان منه ، فطب النبوة لا يناسب
إلا الأبدان الطبية ، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطبية والقلوب الحية فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن طب الإستشفاء بالقرآن الذي هو
الشفاء النافع ، وليس ذلك لقصور فى الدواء