اقبل العام الدراسي الجديد، الكل يبحث لأبنائه عن مدرسة لتسجيلهم فيها، كلاً حسب رغباته، فهناك من يختار المدرسة لقربها من منزله، أو لوجود ابناء اقربائه فيها، وبعضهم يختار لهم مدرسة أهليه لمرونة التعامل مع المدرسين والإدارة فيها، وهناك قسم ءاخر من الأباء يبحث مدرسة يتوفر بها مدرسين جيدين ذوي سمعةً و ذو صيت تعليمي.
و ها أنا أصبح من ضمن الباحثين لمدرسة مناسبة لإبني الأول والذي للتو بلغ السن النظامي للدراسة، وبينما كنت أجول في صفحات الأنترنت، أطالع مادار من أحاديث في المنتديات وصفحات الفيس بوك، بين مدّاح وشاتم
لتلك المدرسة وإدارتها، او تصرفات أحد مدرسيها، و لا أخفيكم سراً أنه أصابني الهول لما اطلعت عليه من تعليقات وتجارب أولياء الأمور، ولم أجد إلا القليل القليل ممن امتدح مدرسةً أو معلماً ما.
وبعد بحث طويل، وجهد مضني لم أجد مدرسة سمعتها تريح القلب وتبعث على الإطمئنان كي ادرسل فلذة كبدي للدراسة فيها، وبعد أن أصابني التعب من البحث، وضعت رأسي على الوسادة لاستريح قليلاً؛ إلا أن أفكاري أخذتني الى ذكريات الماضي، بحلوه و مرّه، بفرحه و حزنه.
بدأت الذكريات في بدايات التسعينات الميلادية عندما كنت في السابعة من عمري، في ذلك الصباح من العام الدراسي الجديد، توقفت السيارة الرمادية المسودّة أمام باب المدرسة - أضنها نيسان باثفيندر- ونزل منها شاب ملتحي يلبس ثوباً قصيراً وشماغاً أحمر بدون عقال، لاهو بالطويل ولا بالقصير، خفيف السّمرة، وعلى جبهته علامة السجود؛ اقبل علينا مبتسماً وألقى تحية السلام ثم دخل إلى مكتب الإدارة.
لم أكن أعلم أن ذلك الشاب هو الذي سيدرّسنا مواد الدين، وسيكون المشرف على فصلنا تحديداً، ومنذ اليوم الأول أخذ يتعرف علينا نحن معشر طلاب الفصل واحداً واحداً، ومنذ ذلك اليوم، أعطانا دروساً في الحياة لا أظن أن الكل تلقاها من معلمه، إلا القليل النادر جداً.
ذلك المدرس لم يكن ملقناً كأغلبية المدرسي للأسف، وليس موظف يؤدي عمله فحسب ولم يكن معلماً فحسب، بل كان مربياً حقيقياً أخذ على عاتقه تربية وتعليم ذلك النشأ، مهما كلفه ذلك من جهد و وقت و مال.
لا أذكر أبداً أنه قال لأحدنا أثناء المشاركة في الدرس كلاماً محبطاً، لم يكن في قاموسه كلمة يا (غبي) أو (أحمق) أو غيرها من الكلمات التي كانت على لسان معظم المدرسين الآخرين. بل كان يّشجع الجميع ويُحفزهم للتفاعل أثناء الدرس.
كان إذا أغضبه شيء وقت الدرس، يلتزم الصمت لبرهة ثم يعاود إكمال الدرس و لا كأن شيئاً قد حدث، وإن رأى تصرفاً مسيئاً من احد الطلاب، كان ينصحه على انفراد.
كان يأتي مراراً وتكراراً للصلاة في أحد المساجد القريبة من المدرسة والتي يُفترض أن غالبية الطلاب يصلّون بها، حيث سكنهم هناك، وكان أكثر وقت يأتي به هو صلاة الفجر والمغرب، ويقوم بنصح الطلاب المتخلفين عن الصلاة بالمسجد.
و في صبيحة يوم السبت من كل اسبوع (عندما كان السبت هو بداية الأسبوع) يطلب مننا إخراج ورقه وكتابة اسم الجامع الذين صلينا الجمعة فيه، وماذا كان عنوان الخطبة، وماهي الفوائد المستخلصة منها.
كان يُدرّسنا في الصباح ويلعب معنا كُرة القدم وقت العصر في ساحة المدرسة، كان يدعونا كل يوم خميس أن نجتمع في المدرسة، وكل واحد يُحضر معه وجبه طعام تكون من طبخ البيت، كلاً على ذوقه وحسب قدرته، ثم نتشارك الأكل على سفرة واحدة.
وبعد أن تمتلئ بطوننا، يلقي علينا محاضرة لتغذية عقولنا أيضاً، ثم نخرج إلى ساحة المدرسة وهناك يقوم بتقسيمنا إلى مجموعات للقيام سباقات رياضية وتحديات بمختلف أنواعها، حيث تتنافس كل المجموعات للفوز بالمركز الأول، والذي يحصل أعضاءه على الجوائز التي كان يُحضرها لنا من ماله الخاص، والتي كنّا نفرح كثيراً عند الفوز بها؛ وبعد أن نستريح قليلاً نجلس على شكل حلقة ويشاركنا الحديث تارة عن موضوع تربوي معين أو قصة هادفة والغاز تارة أخرى، وكل من يجاوب إجابة صحيحة يحصل على جائزة.
في بداية أحد الفصول الدراسية والذي كان عقب عطلة قصيرة - أظنها عطلة مابين الفصلين. - قال لنا أنه قرر أن يُطلق لقب "الفارس"وعلى واااااااحداً مننا فقط، وأنه من بيننا من يستحق هذا اللقب بجدارة، وذلك لبعض الأسباب التي سوف يشرحها لنا لاحقاً.
فإخذنا الفضول والحماس على على معرفة من سوف يتوّج بهذا اللقب العظيم، واصبح كلاً يدعي من أعماق قلبه أن يكون هو الفائز.
وفي نهاية ذلك اليوم الدراسي اعلن عن اسم ذلك الطالب الفائز، وسلمه العديد من الجوائز على مرأى ومسمع من جميع طلاب المدرسة.
وبعد أن أنهى التكريم استطرد قائلاً: تعلمون لماذا؟ هل تذكرون ءاخر يوم قبل الإجازة؟ كانت يد هذا الطالب مكسورة وعليها جبيرة، وحرصاً على سلامته أمرته بأن لا يشترك بأي نشاط رياضي، ورغم رغبته الشديدة بالمشاركة قال الطالب مباشرة: حاضر يا استاذ، ومع ذلك لم يغادرنا ذلك اليوم بل كان يشجع زملائه ويحمسهم و كاد أن يطير فرحاً عندما فاز الفريق الذي يشجعه في السباق النهائي مع أنه لم يستلم أي جائزة، وذلك لنقاء قلبه وحبه لأخوانه مايُحب لنفسه، وطوال أيام وليالي الأجازة وأنا أحدِّث نفسي وألومها، لِمَ لَمْ أكرمه بجائزه ولو شيئاً رمزياً، يقول: فما ارتحت في النوم ليلة واحدة منذ ذلك اليوم".
الله أكبر أي معلم يحمل هذا القلب الذي يفكر بجميع طلابه ويداري شعورهم بهذا القدر من الطيبة!
و له العديد والعديد من المواقف التربوية النبيلة والتي لا يتسع المقام لذكرها.
كان ذلك المعلم المربي الفذّ هو الاستاذ ( سند حمود العامر ) وفقه الله في دينه ودنياه، وأسأل الله أن يجزيه عنّا خير الجزاء، وأن يَكثِّر من أمثاله، ثم إنني ادعوا الله أن يرتقي مستوى التعليم لدينا والذي هو مستقبل أبنائنا..