مؤخرا، انتقل "التوتر" في العلاقات السعودية المصرية إلى المربع الدبلوماسي، بعد أن ظل طوال الشهور الماضية محصورا في تسريبات وتقارير إعلامية ينفي دقتها الطرفان. أبوظبي، وهي ثالثة العلاقات بعد الانقلاب، فشلت في وساطتها بين الجانبين. فما هي مؤشرات "التوتر" بين القاهرة والرياض، وما هو راهن هذه العلاقات و مستقبلها، و كيف سيكون دور أبوظبي فيها: الانحياز أم الحياد، ولمن ستنحاز؟
مؤشرات التوتر بين الرياض والقاهرة
غني عن التأكيد، أن مؤشرات التوتر بين السعودية ونظام السيسي بدأ منذ تسلم الملك سلمان السلطة في يناير 2015، ولكنه ظل توترا مكتوما قابلا للنفي في تصريحات إعلامية وفي زيارات متبادلة بين الجانبين على أعلى المستويات. وكانت أبرز مسألتين تشيران لتغير مزاج الرياض، هما: عرقلتها لمشروع القوة العربية الذي طرحه السيسي "لمحاربة الإرهاب"، وتجميدها "اللجنة الاستراتيجية" مع القاهرة وأبوظبي والتي أُعلن عنها في مايو 2014. واستطاعت الدولتان معايشة هذه التبدلات رغم رفض السيسي المشاركة في عاصفة الحزم.
ولكن انخفاض أسعار النفط وتأثر المساعدات السعودية لنظام السيسي رغم عدم توقفها، سارع بظهور التوتر إلى العلن. وبدأ نظام السيسي يكشف عن توجهاته الحقيقية، بالتقارب مع نظام الأسد، وهو ما ظهر جليا، في تصويت مندوب مصر في مجلس الأمن الدولي لصالح قرار روسي يصطدم تماما مع المصالح الخليجية والسعودية في سوريا، إضافة إلى زيارة مسؤول المخابرات السوري علي مملوك للقاهرة. وكان إبطال محكمة مصرية لعودة جزيرة "تيران وصنافير" إلى السعودية بموجب اتفاق ترسيم الحدود بين البلدين في أبريل الماضي بين محمد بن سلمان والسيسي، مؤشرا إضافيا على توتر بدأ يخرج عن السيطرة بين الجانبين.
من التوتر المكتوم إلى التصعيد الإعلامي والدبلوماسي
كان عبد الله المعلمي مندوب السعودية الدائم في الأمم المتحدة أول مسؤول سعودي يفتح "الحرب" الإعلامية وبوجه دبلوماسي رسمي على نظام السيسي عندما عبر عن أسفه لتصويت القاهرة لصالح القرار الروسي المشار إليه.
أما مصريا، فقد كان الرد بتسريبات إعلامية تفيد بوجود طيارين مصريين يقاتلون مع جيش النظام السوري، ورغم نفيه رسميا، إلا أن السيسي نفسه اعترف بوجود "مستشارين" وخبراء في مكافحة الإرهاب، وهو نفس الاعتراف الذي تقوله إيران للتغطية على مشاركة الحرس الثوري الإيراني في قتل السوريين.
في الأثناء، وفي ظل تلك الخلافات الإعلامية وتصاعدها دبلوماسيا، دخلت أبوظبي على خط الوساطة. فقام محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي بزيارة مفاجئة إلى القاهرة في نوفمبر الماضي، قيل إنها ركزت على إيجاد حل للخلافات بين السعودية ونظام السيسي. واستكملت أبوظبي وساطتها "المتعثرة" مطلع ديسمبر الجاري أثناء زيارة السيسي للإمارات، ورغم ارتفاع منسوب "التفاؤل" في إمكانية عقد مصالحة سعودية مصرية، إلا أن الوساطة الإماراتية فشلت تماما. وقيل إن القاهرة والرياض تبادلتا الشروط لتحقيق هذه المصالحة. فسعوديا، كانت الشروط بإتمام اتفاق إعادة الجزيرتين، وإقالة وزير الخارجية المصري، أما مصريا، فقيل إن السيسي اشترط اعتذارا شخصيا من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان لما وصفه إساءة الإعلام السعودي لمصر، رغم أن الإعلام المصري الرسمي هو الذي يشن انتقادات قاسية جدا ضد الرياض وتأييدا لإيران والحوثيين.
تفجير الكنيسة يفجّر العلاقات المصرية الخليجية
كان تفجير الكنيسة الأسبوع الماضي في القاهرة، سببا مباشرا لتفجر العلاقات السعودية المصرية، أدى إلى سجال إعلامي نادر بين دول الخليج ومصر. فقد زعمت الداخلية المصرية أن انتحاري الكنيسة سافر إلى قطر وتلقى تمويلا ودعما وتعليمات من قادة الإخوان في الدوحة، وهو الأمر الذي يعني اتهام قطر بأنها دولة "راعية للإرهاب". في الواقع، في فبراير 2015 اتهم مندوب مصر في الجامعة العربية الدوحة بدعم الإرهاب في ليبيا، وأرادت القاهرة أن تكرر الاتهام، ولكنها تلقت "صفعة" دبلوماسية قوية للغاية، بحسب مراقبين.
في اتهام فبراير 2015 انقسم الموقف الخليجي من تلك الاتهامات بصدور بيانين متناقضين عن مجلس التعاون، واتهم محللون أبوظبي آنذاك بأنها خلف الانقسام الخليجي. البيان الأول، رد الاتهامات المصرية عن قطر، ليعقبه بيان ثان خلال ساعات ينفي صحة البيان الأول. وحملت صحيفة "الشرق الأوسط" في وقتها راية دحض البيان الأول، إذ نسبت تصريحات لمن وصفته "دبلوماسي خليجي مطلع" تنفي علم أمانة مجلس التعاون بالبيان الذي برأ قطر.
وكمؤشر قوي لا لبس فيه أو غموض على الاصطدام مع نظام السيسي، فإن مجلس التعاون الخليجي هذه المرة، وبإجماع، وبلغة واضحة وحاسمة، رد الاتهامات المصرية جملة وتفصيلا، وقال:" التسرّع في إطلاق التصريحات دون التأكد منها يؤثر على صفاء العلاقات المتينة بين مجلس التعاون وجمهورية مصر العربية".. وكان هذا أول تصعيد إعلامي دبلوماسي مصري خليجي، وبادرت نفسها صحيفة "الشرق الأوسط" على نشر بيان مجلس التعاون على صدر صفحتها الأولى.
وفي القاهرة، وفي مكابرة واضحة، كما يصف مراقبون، فقد ردت "الخارجية المصرية" على بيان التعاون الخليجي بتأكيد اتهامات الداخلية المزعومة، بل ولوحت بتضرر العلاقات، قائلة: “علاقات مصر مع أشقائها العرب يجب أن تظل محصنة وقوية، وألا يتم تعريضها لصدمات أو شكوك نتيجة قراءات غير دقيقة للمواقف".
إجراءات تصعيدية متبادلة
ولم يتوقف مسار العلاقات السعودية والمصرية عند هذا الحد، بل وكرد على وجود خبراء مصريين في سوريا لجانب مليشيات النظام، وكرد على الأنباء المتكررة بشأن دعم القاهرة للحوثيين، وكرد على استقبال القاهرة وفدا أمنيا سوريا، شارك مستشار الملك سلمان، أحمد الخطيب في احتفالات أثيوبيا في إطلاق سد النهضة، مع طلب أديس أبابا تمويلا سعوديا لعدد من المشاريع المرتبطة بالسد، الذي ترى القاهرة أن هذه المشاريع يأتي على حساب حصتها المائية ويهدد أمنها المائي.
وفي المقابل، فإن السيسي يجري الاثنين (19|12) زيارة إلى أوغندا، في إطار ما وصفه موقع "ساسة بوست" الإخباري بأنه "صراع متكوم" بين السعودية ومصر على النفوذ في إفريقيا.
وفي صحيفة "الحياة" كتب الإعلامي السعودي خالد الدخيل مقالا بعنوان "وهم القيادة العربية"، هاجم فيه نظام السيسي بصورة مباشرة لأول مرة، عندما أكد أن مصر في عهده صاحبة "خطاب مضطرب"، نافيا أن تكون مصر يوما من الأيام كانت قائدة للأمة العربية، معتبرا أن مصر غير مؤهلة لذلك، أصلا.
أما الإجراءات العقابية الأكثر خطورة، والتي يمكن أن تتخذها السعودية ودول خليجية في حال تفاقم الأزمة الراهنة وتحولت إلى صراع، فهي كما ذكرها السياسي والدبلوماسي المصري السابق عبد الله الأشعل: "طرد العمالة المصرية، ووقف المساعدات المالية المباشرة للحسابات غير المعروفة، ووقف المساعدات الرسمية، وتخفيض المستوى الدبلوماسي، أو قطع العلاقات الدبلوماسية، ووقف المعاملات التجارية، والتوقف عن دفع أقساط السلاح الذي استورده "السيسي" ووقف السياحة العربية وعدم التواصل الثقافي والفنى، ووقف التعاون العسكري".
أبوظبي ترتبط بعلاقات وثيقة جدا مع نظام السيسي، وقد استثمرت فيه بصورة كبيرة جدا، على حد وصف الأكاديمي عبدالخالق عبدالله، ولا تزال الملفات المشتركة بين أبوظبي والقاهرة كبيرة ومهمة جدا، وخاصة الملف الليبي ودعم حفتر، والحرب على "الإرهاب" والذي يقصدون فيه الإسلام الوسطي وليس جماعات العنف، إلى جانب وصول "ترامب" إلى البيت الأبيض. أما العلاقات بين أبوظبي والرياض، رغم تأكيد الجانبين على أهميتها، إلا أن القواسم المشتركة أقل بكثير مما هي عليه مع نظام السيسي.
في السابق، قامت أبوظبي بدور الوساطة بين الرياض والقاهرة ولم تنجح. فهل تعاود الكرة أم أن الأمور خرجت عن السيطرة؟ فإذا وصلت تلك العلاقات إلى طريق مسدود، فهل ستتخذ أبوظبي موققف الحياد منها، أم ستنحاز إلى الرياض وتحافظ على مجلس التعاون الخليجي وتلتزم بالإجماع الخليجي، أم تشذ وتنحاز علنا لنظام السيسي؟ معضلة كبرى، لا يدركها إلا أبوظبي، كونها هي التي سلطت إعلامها وتهديداتها في أزمة سحب السفراء من الدوحة عام 2014، لتبرر تلك الأزمة والقطيعة بأن قطر تشذ عن الموقف الخليجي في عدم تأييد نظام الانقلاب بمصر، وأن عليها الالتزام بتجانس ووحدة الخليج رسميا وشعبيا، فهل تقع أبوظبي تحت نفس الضغوط، أم تحاول جاهدة نزع فتيل صدام بات محققا أكثر من أي وقت مضى؟ هل تختار أبوظبي استثمارها السياسي "الكبير" أم تفضل عمقها وامتدادها ورغبة الإماراتيين؟