سؤال حساس جدا، تنبع حساسيته من خلع معنى الدين كاملا على الصحوة، وتنزيهها عن كل الأخطاء المنهجية، وربما يكون هذا الزعم مقبولا حين يكون قبل أو أثناء العمل، لكن الزمن لا يعترف بالعواطف بعد أكثر من أربعين سنة مضت، والنتائج دائما هي الأصدق في الحكم على المشروعات بالنجاح أو الفشل.
سأتحدث عن نفسي كأنموذج للتأثر بالصحوة، فقد خرجت من قريتنا بكل براءة أبناء القرى آنذاك في عمر الثامنة عشرة في 1992 إلى جدة، لم أكن أعرف معنى (صحوة) ولا تيارات ولا غيرها، بين فينة وأخرى أسمع أشرطة إسلامية، ودرج سيارتي مليء أيضا بأشرطة غنائية، تخففت منها مع انطلاقة mbc –fm، لكني تحولت أكثر إلى متابعة الأشرطة الإسلامية، وأصبحت أسقِط كل ما فيها على مشاهداتي في شوارع جدة، وتأملاتي في الناس، خاصة على البحر والملاهي، ثم وقعت على كتاب (جاهلية القرن العشرين)، وبعده كتاب (الغزو الفكري)، فضاعفت مع الأشرطة سوداوية نظرتي للمجتمع، وبدأ شعوري بالكره لكل المخالفين لما سمعت وقرأت، مع أني لا أطبق ما يخصني فيما أسمع وأقرأ، وزاد تشددي على أصحاب الملابس وقصات الشعر والأغاني الغريبة وكذلك النساء السافرات والغربيين بكل جنسياتهم إلى درجة اللعن.
في الجامعة كرهت أحد الأساتذة (د.حسن النعمي) حين حاور زميلي أثناء التدريب على كتابة القصة، فزميلي كتب عن المرأة وحاصرها بالقيود التي نسمعها في الأشرطة، والدكتور حاوره فقط ليفتح آفاق وعينا، فرغم حبي له الآن لكنني أبغضته حينها، وكنا نتحدث عنه بالسوء حين نجتمع، وهكذا نشأت كغيري بازدواجية غريبة، مقت ولعن لكل أصحاب المظاهر التي يحذر منها الشيوخ، وعدم تطبيق على ذواتنا تصل أحيانا إلى تفويت الصلوات، ثم تضخمت الحالة حتى صرت أكنّ الكره للمسؤولين، وللدولة نفسها التي سمحت «بدرة العروس» وكل ما نسمع حولها في تلك الحقبة من أقاويل، والحق أني لم أدخلها يوما، لكن السماع كفاني، كما كنا نسمع في الخفاء من شائعات عن قضية الشيخ عايض القرني، وأشياء كثيرة كانت تزيد سواد المجتمع والدولة والحياة كلها في لاوعيي.
تشددت في بيتي وحرّمت دخول (الدش)، وأنا لا أتورع عن مشاهدته في أي مكان آخر، ولا أكف عن سماع الأغاني والتدخين والنظر إلى النساء، ولم يدخل منزلي إلا عام 2001 لأني أسمع عن جرأة قناة الجزيرة، فحظرت كل القنوات الأخرى، وأمضيت مئات الساعات أمام تلك القناة، لا يفوتني شيء مما يطرحون، وكل ما يبث عن المملكة من سوء يزيد مساحة السواد في صدري على وطني، وكم أفرح حين أجد من يشاركني الميول لنتهامس عن مآسي الوطن وانحلاله، وضياع الأمة، حتى صار الإرهابيون رموزا للأحرار، وصرت أفرح بكل كارثة طبيعية أو إرهابية تصيب العالم (الكافر)، وأشعر أنها طوق نجاتنا.
كان على قناة الجزيرة برنامج للشيخ القرضاوي، وللأمانة فقد فتح ذهني على اختلافات الفتوى، وربما يكون هو أول طرقة توقظ عقلي، ثم دخلت الانترنت، فبدأ التذبذب يتراكض عبري، مرة أشعر بصدق مشايخ الأشرطة، ومرة أخرى أشعر بزيفهم ومبالغتهم، إلى درجة التوهان، لكني بدأت أجاذب الناس الحوارات، وأتبنى دور المخالف دائما، ليس جدلا، لكن لأستخرج من دواخلهم ما يشفي غليلي، حتى إن أحد زملائي المعلمين بكى حين علم أني استمعت إلى شريط للعريفي، وكأنه كان يراني على غير الإسلام من كثرة الحوارات وافتعال المخالفة، ثم أهداني المزيد.
في مرحلة الماجستير اتسعت قراءاتي كثيرا، وتحررت من كثير من الأغلال التي كانت تمنعني من قراءة الكتب المحظورة، وأعطيت عقلي مساحة للتفكير والمقارنة والتحليل، كانت أهم نتائجها أني كسبت السلام الروحي مع نفسي، ومجتمعي، ووطني، وإنسانيتي، وقد تخلصت من عقد تلك المرحلة الظلامية من عمري، وصارت رسالتي اليوم أن يتحقق هذا السلام الداخلي للجميع فنتخلص من عقد الكراهية والبغض والتذمر التي لا يزال الكثيرون يعيشونها بنسب إعتام متفاوتة، تصل إلى درجة التدمير والعنف.