عندي صديق ايطالي اصيل لا هجنة فيه راسخ الشجرة من بيتٍ قديم ، رفيع الدعائم ، ومن أسرة فخمة وضخمة لها جذور صلبة واياد بيضاء ومآثر ومفاخر في منظمة المافيا الإيطالية التي نهضت أركانها الأولى على حماية عرض فتاة مراهقة تناوب على اغتصابها بضعة علوج من الجيش الفرنسي ، وكان صديقي هذا موحداً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج بيت الله كلما سنحت له الفرصة ، وقد اكرمني الله بصحبته ومحبته سنين طويلة ، وكان حسن الخلق نقي الثياب ، يأنف من العار ويتكرم عن الدنيئة ويترفع عن النقيصة ، جميل الطلعة حسن المنظر والمظهر ، شديد الاضلاع كأنه قطعة من جبال السراوات ، وكنت اتشرف بزيارته كلما أراد أن يعتمر.
علمته كيف يأكل الكبسة والعصيدة والمرقوق والجريش وعلمني كيف ينام وليس في قلبه مثقال ذرة على إنسان ، علمته كيف يلعب " البلوت " وعلمني كيف نستعد للحياة بعد الموت .
ذات مرة أراد أن يتعرّف على مدينتي الشامخة ، تراثها وامجادها وطبيعة أهلها ، فخرجنا في جولة تعريفية سياحية وتوجهنا إلى الأسواق الشعبية والمساجد المشهورة وبعض المتاحف والمكتبات العامة وبينما كنا نسير في حارة صغيرة في وسط المدينة ، طلب مني أن اتوقف فجأة دون سابق انذار بجانب مبنى اسواره عالية جداً ومهيبة وعليها عوائق وحواجز وكمائن وأسلاك شائكة ، نزل ببطيء من السيارة وهو يتأمل المبنى ويقلب بصره فيه ، ويفحص اسواره العالية المهيبة التي تشبه سور الصين العظيم ، ونوافذه المُغلّقة ومنظره البائس اليائس الجالب للهم والغم والحزن الغارق بالسوء والتعاسة وكآبة المنظر وسوء المنقلب ، وعلى وجهه شواهد من العجب والدهشة ، ألتفت تجاهي بسرعة وقال : هل هذا سجن يا مولانا ؟ هل تضعون السجون داخل الاحياء السكنية ؟
أنا : لا ياخي .. هذه مدرسة الله يصلحك !