حِينَمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الخَمْرِ تَسَاءَلَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ عَنْ حَالِ مَنْ شَرِبُوا الخَمْرَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ . وَبُيَيِّنُ لَهُمْ تَعَالَى أنَّ الذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمْ ، وَ لاَ إثْمَ ، فِيمَا أَكَلُوا أوْ شَرِبُوا مِنَ الخَمْرِ ، أوْ أكَلُوا وَشَرِبُوا ، مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّماً ثُمَّ حُرِّمَ ، إذَا مَا اتَّقَوا اللهَ ، وَآمَنُوا بِمَا كَانَ قَدْ نَزَلَ مِنَ الأحْكَامِ ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ التِي كَانَتْ قَدْ شُرِعَتْ ، كَالصَّلاَةِ وَالصَّومِ ، ثُمَّ اتَّقَوا مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ العِلْمِ بِهِ ، وَآمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّقْوَى ، وَأحْسَنُوا أعْمَالَهُمْ ، فَأَتَوْا بِهَا عَلَى الوَجْهِ الأكْمَلِ ، وَتَمَّمُوا نَقْصَ فَرِائِضِهَا بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ ، وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ، فَلا يُبِقِي فِي قُلُوبِهِمْ أثَراً مِنَ الآثَارِ السَّيِّئَةِ ، التِي وَصَفَ بِهَا الخَمْرَ وَالمَيْسِرَ ، مِنَ الإِيقَاعِ فِي العَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ .
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان . .
فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف "الطيبات" التي احلها الله . وهي من عمل الشيطان . والشيطان عدو الإنسان القديم ; ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه , وتشمئز منه نفسه , ويجفل منه كيانه , ويبعد عنه من خوف ويتقيه !
وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق: (فاجتنبوه لعلكم تفلحون) . .
ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر , ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة . . .) . .
بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان , وغاية كيدة وثمرة رجسه . . إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد (الذين آمنوًا عن ذكر الله وعن الصلاة) . . ويالها إذن من مكيدة !
وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون ان يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته . فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس . فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم , وبما تهيج من نزوات ودفعات . والميسر الذي يصحابها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات واحقاد ; إذا المقمور لابد ان يحقد على قامره الذي يستولى على ماله أمام عينيه , ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور . . إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء , مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة !
وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة , فلا يحتاجان إلى نظر . . فالخمر تنسي , والميسر يلهي , وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين ; وعالم القامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح !
وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب (الذين آمنوا) وتحفزها , يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي الله عنه وهو يسمع: فهل أنتم منتهون ?
فيجيب لتوه:"انتهينا . انتهينا" . .
ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا . فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) . .
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله:طاعة الله وطاعة الرسول . . الإسلام . . الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول . . والحذر من المخالفة , والتهديد الملفوف: (فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) . .
وقد بلغ وبين , فتحددت التبعة على المخالفين , بعد البلاغ المبين . .
إنه التهديد القاصم , في هذا الأسلوب الملفوف , الذي ترتعد له فرائص المؤمنين ! . . إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحدا إلا أنفسهم . لقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأدى ; ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم , وما هو بدافع عنهم عذابا - وقد عصوه ولم يطيعوه - ولقد صار أمرهم كله إلى الله سبحانه . وهو القادر على مجازاة العصاة
المتولين !
إنه المنهج الرباني يطرق القلوب , فتنفتح له مغاليقها , وتتكشف له فيها المسالك والدروب . .
إن غيبوبة السكر - بأي مسكر - تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولا بالله في كل لحظة , مراقبا لله في كل خطرة . ثم ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيا في نماء الحياة وتجددها , وفي صيانتها من الضعف والفساد , وفي حماية نفسه وماله وعرضه , وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء . والفرد المسلم ليس متروكا لذاته وللذاته ; فعلية في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة . تكاليف لربه , وتكاليف لنفسه , وتكاليف لأهله , وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها , وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها . وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف . وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع , فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذة . إنما يسيطر دائما على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره . . وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه .
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات ; وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار . والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق , وأن يواجهوها , ويعيشوا فيها , ويصرفوا حياتهم وفقها , ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام . . إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة ; أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل , ووهن العزيمة , وتذاوب الإرادة . والإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة , وإطلاقها من قيود العادة القاهرة . . الإدمان . . وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وتحريم سائر المخدرات . . وهي رجس من عمل الشيطان . . مفسد لحياة الإنسان .
وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات , وذكر فيها تحريم الخمر , ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة , مختلفتان في الباعث والهدف .
قال بعض المتحرجين من الصحابة:كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا:فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم [ أي قبل تحريمها ] .
وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه ; يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع , أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم ; وهي رجس من عمل الشيطان , ماتوا والرجس في بطونهم !
عندئذ نزلت هذه الآية: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا , ثم اتقوا وأحسنوا , والله يحب المحسنين) . .
نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرم لا يحرم ; وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله ; وأنه لا يحرم بأثر رجعي ; فلا عقوبة إلا بنص ; سواء في الدنيا أو في الآخرة ; لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم , وهي لم تحرم بعد , ليس عليهم جناح ; فإنهم لم يتناولوا محرما ; ولم يرتكبوا معصية . . لقد كانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية .
والله حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم , أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته , أو من ناحية مصلحة الجماعة . . فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله ; والطاعة لأمره واجبة , والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد:إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه !! فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر ; وما يراه علة قد لا يكون هو العلة . والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ , سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهارا للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام . . وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها , وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان ! إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية ?