سعود بن هاشم جليدان
تمت الإشارة في المقال الماضي إلى توقُّع قيام مجلس الاحتياطي الأمريكي (المصرف المركزي الأمريكي) برفع معدلات الفائدة في النصف الأول من عام 2016. ولا يخفى على المهتمين بالقضايا الاقتصادية التأثيرات القوية التي تتسبب فيها القرارات النقدية الأمريكية في الاقتصاد العالمي. وترتفع درجة الترابط بين السياسة النقدية الأمريكية والسياسات النقدية للدول المثبتة لعملتها بالدولار إلى أقصى الدرجات، حيث تتأثر سياسات تلك الدول النقدية بشكل مباشر وسريع بقرارات تعديل معدلات الفائدة الأساسية الأمريكية التي يحددها مجلس الاحتياطي الأمريكي. ويحاول المجلس من خلالها التأثير في معدلات الفائدة طويلة الأجل في الولايات المتحدة، التي تؤثر في مسيرة الاقتصاد الأمريكي. ويرفع المجلس معدلات الفائدة الأساسية للحد من النشاط الاقتصادي المستقبلي المفرط والرافع لمعدلات التضخم، بينما يخفض معدلات الفائدة لتحفيز النمو، والتصدي للتراجع الاقتصادي، وخفض معدلات البطالة. ويركز مجلس الاحتياطي- كأي بنك مركزي آخر- على التعامل مع المتغيرات الاقتصادية الوطنية، ولا يهتم بما تحدثه قراراته على اقتصادات الدول الأخرى بما في ذلك الدول التي تربط أسعار عملاتها بالدولار. ولهذا قد تقود سياسات مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى آثار سلبية على الدورة الاقتصادية في الدول التي تربط عملاتها بالدولار.
وعلى الرغم من تراجع إيرادات المملكة النفطية بشكل كبير قد يصل إلى نحو النصف في عام 2015، إلا أنه لا يبدو أن هناك تغييرا جوهريا على السياسة المالية. ويشير السحب الكبير من احتياطات الدولة لدى مؤسسة النقد العربي السعودي إلى استمرار معدلات الإنفاق الحكومي عند مستويات قريبة أو أعلى من مستويات العام الماضي. ويبدو أن السياسة المالية التوسعية في المملكة ما زالت مستمرة هذا العام، ولكن استمرار التوسع المالي مشكوك فيه في ظل تراجع الإيرادات النفطية المتوقعة العام المقبل وعدد من الأعوام التالية. وسيجبر استمرار تراجع الإيرادات النفطية العام المقبل، الدولة على مراجعة سياستها المالية، للحد من العجزين الكبيرين المتوقعين في الحسابين المالي والجاري في الأعوام المقبلة. وفي حالة خفض الإنفاق الحكومي المحفز للنمو الأعوام المقبلة، فإن هذا سيقود إلى تباطؤ الدورة الاقتصادية وتراجع معدلات النمو، ما يستلزم تطبيق سياسة نقدية توسعية معاكسة لتحفيز القطاع الخاص على الاستمرار في النمو والتوسع. ولكن تبني سياسة نقدية توسعية في ظل الارتفاع المتوقع بأسعار الفائدة الأمريكية وربط الريال بالدولار الأمريكي سيكون صعبا للغاية.
وسيقود ارتفاع معدلات الفائدة الأمريكية التدريجي خلال السنوات الخمس المقبلة بنحو 2.5 في المائة، إلى رفع معدلات الفائدة في المملكة بالنسبة نفسها تقريبا. وبهذا سترتفع تكاليف التمويل قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل. ومن الأمثلة على التمويل قصير الأجل تمويل التجارة، الذي سترتفع تكاليفه بنحو 2.5 في المائة بصورة تدريجية خلال السنوات الخمس المقبلة إذا صدقت التوقعات. وفي حالة حدوث هذا فإن تكاليف الواردات سترتفع – لهذا العامل وحده- بنحو نقطة إلى نصف نقطة مئوية خلال السنوات الخمس المقبلة. وسترتفع تكاليف الاستدانة لشراء السلع المعمرة كالسيارات بنسبة ارتفاع الفوائد الأمريكية نفسها تقريبا، ما يعني رفع تكاليف تمويل السلع المعمرة بمعدلات سنوية تصل إلى نحو 2.5 في المائة، وهذا سيدفع بتكاليف شرائها. وتؤثر معدلات الفائدة طويلة الأجل في معدلات تمويل شراء العقارات، ما سيرفع من معدلات الفائدة أو الربح السنوي على الرهن العقاري بنحو 2.5 في المائة. وتشكل الفوائد على الرهن العقاري جزءا كبيرا من أقساط القروض العقارية.
وسينتج عن هذه الزيادة - في حالة حدوثها - تراجع جوهري في قدرة وملاءمة كثير من العائلات على شراء العقارات، ولهذا قد تكون سوق العقارات الأكثر تأثرا بارتفاع معدلات الفائدة.
وقد استفادت الأسواق المالية العالمية من السيولة العالية التي جاءت بسبب تدني معدلات الفائدة والتيسير الكمي الأمريكي.
وقد يقود رفع معدلات الفائدة والتوقف عن سياسات التيسير الكمي إلى خفض السيولة في الأسواق المالية والضغط على أسعار الأسهم والاستثمارات الأخرى في السلع والعقارات. وسيأتي على رأس المستفيدين من ارتفاع معدلات الفائدة المصارف التجارية،
وخصوصا التي تطبق المعاملات المتوائمة مع الشريعة الإسلامية. وتأتي هذه الاستفادة من عزوف معظم المودعين وخصوصا في المصارف الإسلامية عن الحسابات المدرة للفوائد، ما يخفض من تكاليف استدانة المصارف من المودعين إلى مستويات متدنية لا تتغير كثيرا بتغير معدلات الفائدة، بينما ترتفع إيرادات المصارف من رفع معدلات الفائدة برفع معدلات الائتمان التي يواجهها المقترضون. وعلى العموم سيستفيد من ارتفاع معدلات الفائدة المقرضون بما في ذلك المستثمرون في السندات بشتى أشكالها، وتأتي مؤسسة التقاعد على رأس قمة المستثمرين في السندات الحكومية المحلية والعالمية. ولهذا من المتوقع ارتفاع إيرادات المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية. ولا يعرف الحجم الحقيقي لاستثمارات هاتين المؤسستين في السندات، ولكن من المعتقد أنه لا يقل عن نصف أصولهما.
وسيرفع ارتفاع الفوائد الأمريكية العائد على استثمارات السندات في احتياطيات الدولة، وبهذا سترتفع إيرادات الدولة من الاستثمارات. من جهة أخرى، سيقود استمرار تراجع إيرادات الدولة النفطية إلى سحب المزيد من احتياطات الدولة، ما سينتج عنه تراجع حجم الاحتياطات وتآكلها بشكل تدريجي وخفض إيراداتها. وإضافة إلى ذلك، سترتفع حاجة الدولة إلى الاقتراض مستقبلا، وفي حالة حدوث ذلك فإن تكاليف خدمة الدين سترتفع مع ارتفاع معدلات الفائدة وارتفاع حجم الدين، ما سينتج عنه تكاليف إضافية على الدولة. وفي ظل توقع ارتفاع معدلات الفائدة قد يكون من المفيد المحافظة قدر الإمكان على الاحتياطات الحالية، واللجوء للاقتراض بسبب تدني تكاليف الاستدانة الحالية، ولكن في حالات الضرورة القصوى فقط.