في بدايات هذا القرن لم تكن أمريكا دولة عظمى ملء السمع والبصر، لم يكن نيل ارمسترونغ قد وصل الى القمر ولم يكن هناك تلفزيون، حتى السينما كانت صامتة في الغرب. وفي بلادنا العربية لم تكن هناك دور للسينما، فكيف يعرف العربي أميركا.
خليل ابراهيم الرواف واحد من عرب قلائل في تلك الأيام سمع بأميركا.
خاصة انه رجل بدوي ينتمي الى قبائل العقيلات، شاب في مطلع العمر مهنته “جمّال” يشتري النوق والجمال يربيها ويبيعها، وتأخذه تجارته بين رمال الصحراء من بريدة وعنيزة في السعودية الى العراق وسوريا والاردن.
كان ذلك في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، لكن خليل ابراهيم الرواف ولد في القرن التاسع عشر، عام 1895، في دمشق لعائلة كانت مهمتها حراسة قوافل الحجاج الى بيت الله الحرام من دمشق الى مكة حين كانت الرحلة تستغرق 40 يوما.
قصة خليل الرواف قصة غريبة عجيبة. وقد يكون من الصعب تصديقها حتى في أفلام الدراما العربية، لكن ما يدفع الى تصديقها انها قصة حقيقية أبطالها ما زالوا أحياء يرزقون حتى العم خليل ابراهيم الرواف أنعم الله عليه بطول العمر لتكتحل عيناه قبل الرحيل برؤية ولده الأمريكي الذي انقطعت أخباره عنه خمسا وأربعين عاما.
والقصة أشبه ما تكون بقصص ألف ليلة وليلة، ففي العام 1933 كان خليل الرواف يقيم في فندق دجلة في بغداد، في الوقت الذي كان يقيم في هذا الفندق احد المهاجرين العرب الأوائل الى أمريكا، كما كانت في الفندق أيضا امرأة أمريكية ثرية اسمها فرانسيس اليسون جاءت كسائحة تتعرف على بلد العرب وتستكتشف حضارتهم ويبدو أنها كانت على معرفة وثيقة برجالات العالم العربي في ذلك الزمان. والفئة القليلة المثقفة آنذاك بين أبنائه.
حدث المهاجر العربي الى أمريكا عم خليل عن العالم الجديد وأهله، ورأى العم خليل في فرانسيس أليسون عينة يانعة من أبناء هذا العالم. فقد حدثته فرانسيس عن بلادها وأهلها، ويبدو ان العم خليل أعجب بفرانسيس كما أعجبت فرانسيس بشبابه ولونه الأسمر، فتحابا وترك عم خليل بعارينه وتجارته، ورافق تلك المرأة الشقراء من بغداد الى دمشق ومن دمشق الى بيروت ومن بيروت الى نيويورك، رحلة طويلة وجميلة، ظلت آثارها في نفس العم خليل. وما فتئت نكهتها تلح عليه بالعودة الى ذلك العالم الجديد الساحر. ولما كانت فرانسيس قد أحبته ووقع في قلبها كما وقعت في قلبه فقد وعدته بأنها ستعود الى دمشق، وستقابله هناك وسوف تغير دينها وتعتنق الاسلام وتتزوجه.
في الشام ظل العم خليل ينتظر ويحسب الايام والساعات، وذات يوم أطلت وكما وعدت فرانسيس فعلت.
بعد الأفراح والليالي الملاح في الشام، ذهبت فرانسيس بصحبة زوجها العربي السعودي الى بيروت. وهناك في السفارة الامريكية حصل العم خليل على البطاقة الخضراء
التي تخوله حق الاقامة الدائمة في قارة كولومبوس.
ولم يضيع الزوجان وقتا في بلاد العرب، اذ سرعان ما حزم العمل خليل حقائبه وانطلق مع زوجته بحرا الى بلادها.
في 3 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1935 رست الباخرة في الميناء. وحط عم خليل رحاله في نيويورك، لتصبح البعارين مجرد ذكرى جميلة، ولكنها ماضية كأنها من غابر القرون. خاصة حين رأى بعينه كيف تهافت المصورون الصحفيون على بوابة الميناء يلتقطون الصور والكلمات من فم فرانسيس العائدة من الشرق، بلاد الأساطير وألف ليلة وليلة. فلم يكن هينا في ذلك الزمان أن يسافر المرء الى هكذا بلاد بعيدة، فكيف الحال بامرأة، تسافر وتبحث وتكتشف وتتقصى، وتعود بزوج أسمر وسيم. لوحته شمس الصحراء العربية، وهكذا وجد العم خليل صورته في اليوم التالي تملأ صفحات الجرائد والمجلات الأمريكية.
ولم تكن فرانسيس لتوفر شيئا من أجل اسعاد زوجها العربي، فاشترت سيارة وطافت به في أنحاء الولايات المتحدة. في رحلة طويلة استغرقت 6 أشهر، الى أن وصلا الى ولاية اريزونا، وكانا خلال تجوالهما الطويل دائما موضع ترحيب، ففي كل بلدة ومدينة كان الناس يعرفون فرانسيس فيستقبلونها بحفاوة بالغة هي وزوجها العم خليل، وكانت طبيعة الاستقبال بالنسبة لعربي قام من الصحراء بثقافة مختلفة وترسيبات تاريخية قديمة في الوجدان، وتراث لا يجيز خروج المرأة واختلاطها بالرجال، شيئا جديدا وغير مقبول. في أريزونا بدأ الخلاف يدب بين الزوجين، حتى انفجر، فقد شعر العم خليل ان رجولته مهددة، فهو يعيش في كنف امرأة هي التي تسوق السيارة وهي التي تعرف اللغة وهي التي تصرف عليه من فلوسها، فقرر الطلاق، ولكن الطلاق مشكلة في أمريكا. فهما تزوج حسب الشرق على الطريقة الاسلامية.
عادت فرانسيس الى دمشق حيث أوكلت محاميها، فارس الخوري احد رجالات سوريا وسياسييها الكبار ومحاميها في مصر السياسي الكبير والخطيب المفوه مكرم عبيد، واستعانت بفوزان السابق ممثل السعودية لدى المملكة المصرية في حينه حتى حصلت على الطلاق.
وهكذا تحررت فرانسيس من تقاليد خليل ابراهيم الرواف. كما تحرر خليل من نفوذها وسلطتها وغطرستها. ويبدو انه قرر عدم الزواج من أمريكية.
وكان غريبا ان يذهب الشاب العربي القادم من بلدة بريدة السعودية الى هوليوود عاصمة السينما في العالم، ولكن العم خليل كان يجيد الانكليزية وعددا آخر من اللغات، وهكذا عمل مستشارا فنيا للتراث العربي والعادات البدوية. والتقاليد الشرقية في استوديوهات هوليوود، ولم يقتصر الأثر على هذا الشأن، بل انه دخل عالم التمثيل واشترك مع جون واين في تمثيل فيلم “كنت مراسلا حربيا”
(I Cover the war)
مع نجم السينما وبطل الوسترن الشهير جون واين. حيث مثل العم خليل دور حارس بدوي لشيخ قبيلة بدوية في صحراء العراق.
وعادت الصحف الامريكية لتكتب مرة أخرى عن العم خليل لكن بمفرده هذه المرة وبدون فرانسيس اليسون.
بعد هوليوود انخرط العم خليل في وضع كتب لتعليم اللغة العربية للامريكيين واتبع ذلك بفتح مدارس لتعليم العربية، وذلك بعد سنوات من طلاقه من فرانسيس.
وذات يوم اتصلت شابة أمريكية مثقفة اسمها كونستانس ويلمان ترغب في تعلم اللغة العربية، بعد ان زارت أوروبا وقرأت ان الحضارة العربية هي أساس الحضارة الغربية.
بدأت كونستانس تحضر الى المدرسة وتتعلم أبجدية العرب وبدأ الحب يغزل خيوطه بين العم خليل وكونستانس، منذ اللقاء الأول، وكما يقولون فان الحب أعمى، لدرجة انه جعل العم خليل ينسى أنه وعد نفسه بعدم الزواج من امرأة غير عربية مختلفة العادات والثقافة. وهكذا لم تكد تمضي سنوات ثمان على طلاقه من فرانسيس حتى عقد العم خليل قرانه على كونستانس.
في الثالث والعشرين من يونيو (حزيران) 1946، أنجبت كونستانس ولدا للعم خليل سماه “نواف” لكن التقاليد والأعراف عادت لتقف حائلا دون سعادة الزوجين.
صار عمر نواف 8 شهور حين لم يعد بمقدور أي منهما أن يتعايش مع الآخر. وكان طلاق آخر في حياة ابن بريدة، الذي وجد ان الحياة الامريكية بالرغم من جمالها وبهرجتها لا تناسب انتماءه وجذوره وتقاليده، فعصف به الحنين الى الصحراء العربية، فلم يطل به المقام بعد الطلاق الا عاما أو بعض عام، صفى فيه أعماله ومدارسه ورحل صوب الشرق.
في السعودية قرر عم خليل الزواج للمرة الثالثة، وكما يقولون كانت الثالثة ثابتة، مصرية اسكندرنية انجبت له ابنتين، واحدة تعمل حاليا طبيبة والأخرى مدرسة. لكن العم خليل لم ينس ابنه نواف.
عام 1958 عاد الى أمريكا بصحبة الأمير طلال بن عبد العزيز، وبرجاء من العم خليل أرسل الأمير طلال مندوبا الى كونستانس منها أن تعطي حضانة الولد لأبيه، على أن يكون الأمير نفسه مشرفا على تربيته وتعليمه، لكن عاطفة الأمومة أبت أن تقبل بفراق بكرها.
وكرر عم خليل المحاولة مرة أخرى عام 1963 حين رجع الى أمريكا مع زوجته وابنتيه. لكنه لم يجد أثرا لنواف أو أمه. وأعاد الكرة ثالثة عام 1968 ورابعة عا 1987.
في تلك الاثناء وبعد أن صفى العم خليل أعماله في أمريكا عائدا الى وطنه، تعرفت كونستانس على الشاعر العربي المجدد أحمد زكي، أبو شادي احد مؤسسي جماعة أبوللو الشعرية التي رفعت راية الحداثة التي تزوجته بعد عام من طلاقها من العم خليل، ولما كان أبو شادي على قدر عال من المسؤولية والشعور المرهف فقد تبنى نواف خاصة وأنه كان على معرفة بأبيه، وعامله كواحد من أبنائه لا يميز أحدا من أبنائه عليه. وكان أبو شادي قد انضم الى فريق العمل في الوفد السعودي لدى هيئة الأمم المتحدة لكن الموت ما لبث أن عاجل الشاعر المجدد فانتقل الى رحمة الله بعد أن تغير اسم نواف ليصبح “كلايف أبو شادي”.
وظل العم خليل أثناء ذلك كله في بحث دائم عن ولده. الى أن ابتعثت جامعة الملك سعود في الرياض الطالب عثمان ياسين الرواف ابن أخ العم خليل لاستكمال دراساته العليا في أمريكا. ابن العم د. عثمان ياسين الرواف
لكن الحظ لم يسعف عثمان في العثور على ابن عمه رغم جهوده الدائبة للعثور عليه طيلة 17 عاما. الا ان رحمة الله وعنايته، شاءت في آخر المطاف ان تجمع شمل الأب بابنه، حين تمكن عثمان ياسين الرواف في الشهر الماضي من العثور على كلايف ويلمان، أو نواف خليل الرواف.
ولذلك قصة أخرى يرويها مدير مركز البحوث ومركز دراسات الخليج العربي في جامعة الملك سعود الدكتور عثمان ياسين الرواف:
منذ كنت طفلا صغيرا في بريدة كنت أسمع عن عمي خليل الذي سافر الى أمريكا، كانت الوالدة تحدثنا عنه وتقول انه أرسل لنا صورة جميلة لولده، لكنها ضاعت. غير انني لم أتابع الموضوع بعد ذلك حتى سنة 1974، عندما ابتعثتني جامعة الملك سعود للدراسات العليا في الولايات المتحدة. قال لي عمي قبل السفر “اسأل السفارة السعودية في واشنطن عن نواف”. ففعلت كما قال عمي وجنت الى السفارة حيث قال لي موظف فلسطيني كبير السن كان يعمل في السفارة انه يعرف القصة. وقادني الى صفية أبو شادي، التي كانت تعمل في اذاعة “صوت أمريكا”.
قالت لي صفية: “نعم أعرف نواف، والدي تزوج والدته بعد طلاقها من الرواف: وعشنا معا لعدة سنوات حتى توفي والدي، بعدها تزوجت والدته رجلا آخر، ولم أعد أعرف عنهما شيئا”.
واضافت:”لكن لأن اسمه كان كليف أبو شادي، ولتاشبه الاسمين، قال لي شخص انه يعرفه، وأنهما حاربا في فيتنام” (مع القوات الأمريكية التي أرسلت الى هناك لمواجهة المد الشيوعي من فيتنام الشمالية نحو فيتنام الجنوبية حتى سنة 1975).
هذه المعلومات جعلتني أكتب الى وزارة الدفاع الامريكية التي طلبت مني معلومات لم أكن أعرفها: مثل اسم المستشفى الذي ولد فيه، ورقم بطاقة التأمين الاجتماعي، الخ..وهذه معلومات لا يعرفها عمي نفسه، بعد هذا الفشل الأولي نصحني شخص ان أنشر اعلانا في مجلة عسكرية خاصة بالمحاربين القدامى. وبالفعل نشرت الاعلان:”انا عثمان الرواف، عنواني كذا، وأبحث عن ابن عمي الذي حارب في فيتنام، الخ..”.
لكن لم يصلني اي رد أو خبر حتى عدت عام 1980 الى السعودية بعد أن نلت الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا.
لكني واصلت متابعة الموضوع، والاتصال بصفية أبو شادي. سنة 1985 قالت لي صفية أنها وجدت وسط أوراق والدها القديمة وثيقة تبني نواف بعد أن تزوج والدته وأرسلتها لي في السعودية. وفيها تاريخ الميلاد، والاسم الجديد، الخ…أرسلتها انا الى محقق خاص في لوس أنجلوس، لكن بلا فائدة.
خليل الرواف (واقفا في مؤخرة الصورة) في نيويورك عام 1945 مع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز والمغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز والمرحوم حافظ وهبه
عرفت سنة 1988 انه كان في فرقة الفرسان الأولى. اتصلت بقيادة الفرقة في ولاية تكساس، بلا فائدة. في السنة الماضية عندما أرسلت القوات الدولية الى السعودية استعدادا لحرب الخليج، اتصلت بهم هناك، بلا فائدة كذلك.
هذا العام، وقبل حوالي شهر كنت في واشنطن قابلت صديقا أمريكيا قديما اسمه مايكل اورسني، أعرفه منذ ايام الدراسة في جامعة ديوك، ويعمل حاليا في وزارة الخارجية الأمريكية. اهتم صديقي هذا بالموضوع، واعتبره حالة خاصة ومستعجلة، وأعطاني اسم محقق خاص، قدمت له المعلومات التي عندي.
بعد 3 أيام اتصل بي المحقق، وأعطاني الاسم الحالي لنواف: كلايف ويلمان، وعنوانه في مدينة ميرامار بولاية فلوريدا، ورقم تلفون منزله.
عندما كنت أتحدث مع المحقق كنت في غرفتي في الفندق في واشنطن، وكان عمي الذي جاء الى واشنطن أيضا يجلس بجواري في الغرفة. ولم نكن حددنا ما اذا كان من الأنسب ان نكتب لنواف، ام نتصل به تلفونيا، أم نزوره. اذا وجدناه.
سمعني عمي أقول:”وجدته؟وجدته؟”.
وبعد أن أخذت المعلومات من المحقق سألت عمي:”هل نتصل به؟ قال :”نعم”، ثم قال “لا”، ثم صمت فترة من الوقت، وأغمض عينيه كأنه يسترجع الماضي كله في تلك الاغماضة. أعرف عمي جيدا انه رجل متدين جدا. أحسست انه يدعو ربه. فتح عينيه، وقال بلهجة حاسمه اتصل به. فاتصلت. الأم: كونستانس ويلمان 77 سنة
كان لا بد لـ”المجلة” أن تلتقي بأم نواف لتسألها عن ظروف اللقاء والزواج والطلاق وهذه القطيعة الطويلة بينها وبين العم خليل، سألناها عن كيفية اللقاء الأول بينهما فقالت:
والدي كان محاميا مشهورا في نيويورك خلال الثلاثينات. وكان يوفر لنا فرص الزيارة والدراسة في أوروبا. عشت في ايطاليا عدة سنوات، ودرست الحضارة الغربية، ولاحظت اثر الحضارة العربية عليها. ثم عدت الى نيويورك. وعملت محررة في دار للنشر، وفي عام 1944 قابلت الدكتور خير الله، المهاجر العربي والمهندس الناجح. وأثناء الحديث ذكرت له رغبتي في تعلم اللغة العربية، فأشار علي بخليل الرواف قائلا ان لديه أكثر من مدرسة في نيويورك. فذهبت الى خليل، وقلت له انني أريد أن أتعلم العربية. فقبلني عنده وفي وقت لاحق أحب كل منا الآخر، وتزوجنا على يدي امام، ثم رزقنا بطفلنا نواف. *ولماذا اختلفتما؟
- حبي لخليل كان بلا حدود. لكنني فوجئت بآراء محددة له عن المرأة، لم يكن يؤيد عمل المرأة خارج المنزل. لم يقل لي ذلك مباشرة بل كان يقوله لآخرين، وكان يتصل بي في مكان عملي، بشكل دائم يتصل بمن يعملون معي يسالهم عني. ثم اختلفنا مرة على فستان ارتديته لمناسبة اجتماعية. كذلك لم يذكر لي انه تزوج من امرأة قبلي. وقد عرفت ذلك بالصدفة. ويا ليته كان قال لي ذلك، كنت سأسانده ضدها، فقد علمت فيما بعد أنها أساءت معاملته قبيل طلاقهما. *متى رأى ابنه نواف آخر مرة؟
- لم يره عندما التقينا لآخر مرة في المحكمة. فنحن حتى لم نودع بعضنا عندما صدر الحكم لصالحي بالحضانة. كان هو في الجانب الآخر من قاعة المحكمة. نظرت اليه نظرة أخيرة، فسالت الدموع على خدي وأعتقد انه هو الآخر أدمع ولم أكن قد أحضرت نواف الى المحكمة، يومها، فقد علمت ان خليل خطط لأخذه معه الى السعودية. كما أخبرتني خادمتنا التي اتفق معها. *ولماذا غيرت اسم الطفل من “نواف” الى “كلايف”؟
-
احببت اسم نواف. لكن أسئلة الناس ضايقتني حول “هذا الاسم الغريب”. وعندما أدخلته روضة الاطفال وكان عمره 3 سنوات، اخترت له اسم “كلايف” وهو اسم جدي الكبير الذي هاجر من انجلترا قبل ذلك بمائة وخمسين سنة.
*كيف قابلت أبو شادي؟
- في سنة 1945 بعد زواجي من خليل. جاء الى مكتبنا التجاري (كنت أساعد خليل في أعماله التجارية) يطلب عملا. أعتقد أنه وجد عملا في منظمة الامم المتحدة. ولم نلتق كثيرا.
بعد طلاقي من خليل التقينا وأحب كل واحد من الآخر، وتزوجنا. ثم انتقلنا الى واشنطن حيث كان أبو شادي يعمل في اذاعة “صوت أمريكا”. بعد زواجنا تبنى أبو شادي كلايف. فاصبح الاسم “كلايف أبو شادي”. *لم تقولوا لكلايف ان أباه الحقيقي هو خليل النواف؟
- لا أبدا.
*ولا أبو شادي قال له ذلك؟
- ولا أبو شادي أخبره. *ولا اخواته واخوانه؟
- عندما تزوجت أبو شادي انضمت الى أسرتنا ابنتاه من زواجه السابق (صفية وهدى) وابنه من نفس الزواج (رمزي). كلهم ظلوا يعاملون كلايف كأنه شقيقهم منذ يوم ميلاده.
*كلايف قال لنا أنه كان يقلب ملفات قديمة عندما كان عمره 9 سنوات، وقرأ انه ابن أبو شادي بالتبني. لكنه لم يهتم بالموضوع كثيرا في تلك السن؟
- كلايف لم يقل لي هذا أبدا.
*وقال أيضا أنه خلال اشتراكه في حرب فيتنام (عندما بلغ عمره أكثر من 35 سنة) بدأ يفكر في أبيه الحقيقي؟
- لم يخبرني عن هذه المشاعر مطلقا. *متى علمت أن خليل الرواف يبحث عنه؟
- لم أعرف أبدا، حتى قبل أسبوعين عندما اتصل بي كلايف من فلوريدا، وقا لي انه عثر على أبيه الحقيقي. *ماذا قال لك كلايف في التلفون تحديدا؟
- قال لي:”والدي هنا جاء من السعودية”. *وماذا قال خليل عندما تحدث معك بالتلفون؟
- انا قلت:”خليل”؟ انني لا أصدق هذا أنا سعيدة أن أسمع صوتك مرة أخرى”. قال:”وأنا سعيد كذلك. لقد كبرت في السن. عمري الآن 95 سنة”. قلت:”لا أصدق، صوتك لا يزال شابا”. قال:”مضت سنوات كثيرة، أود ان نلتقي، لكني أخشى الا تريدي مقابلتي؟” قلت :”انني لا أكاد أنتظر حتى نتقابل”. *لو انك قابلت خليل في الشارع. هل كنت ستعرفيه بعد مرور 45 سنة؟
- أقسم لك بأنني كنت سأعرفه. كنت سأعرفه من شكل رأسه. مثل رأس ابنه تماما. حتى بعد أن تساقط شعره. الابن كلايف: أحسست بأن أبي غص بالدمع حين سمع صوتي
وتركنا كلايف (نواف) يتحدث عن نفسه وعن والده، وعن المناسبة نفسها يقول
كنت أعرف أنني ولدت يوم 23/6/1946 في نيويورك.
وان اسمي كان كلايف أبو شادي.
وان اسم والدي كان أحمد زكي أبو شادي. من مصر، ودرس في اكسفورد وكمبريدج ببريطانيا، ثم هاجر الى أمريكا سنة 1945. قابل والدتي في نيويورك، وتحابا، وتزوجا.
وكنت أعرف ان “والدي” أبو شادي توفي وعمري 9 سنوات، ولم يقل لي أي شيء عن “والدي الحقيقي”. بنتاه (صفية وهدى) وولده (رمزي) من الزواج الأول. لم يقولوا لي أي شيء، كذلك.
بعد وفاة والدي كنت أبحث عن ايصالات قديمة، وأقلب في أوراق والدتي عندما وجدت ملفا باسم كلايف أبو شادي.
ووجدت في الملف شهادة ميلادي وقد تغير اسمي من “نواف”، الى “كلايف”، ووثيقة الزواج، وشهادة التبني.
سألت والدتي: هل صحيح ان أبي ليس أبي الحقيقي؟
أجابت: نعم. أبو شادي تبناك، وأبوك الأصلي طلقني وذهب الى السعودية.
كانت أسئلة وأجوبة سريعة، انتهت بسرعة، ولم أفكر في الأمر كثيرا فقد كان عمري آنذاك تسعة أعوام.
كانت الأسرة في واشنطن حيث كان “أبي” يعمل في اذاعة “صوت أمريكا” وتفرق شمل الاسرة بعد وفاة والدي أبي شادي عام 1956 وأذكر ان رمزي أصبح فيما بعد مترجما، وعمل في الأمم المتحدة. وانتقلنا من واشنطن الى ولاية ماريلاند.
بعد 5 سنوات تزوجت أمي من رجل بريطاني اسمه كيث جارني وانتقلنا الى بريطانيا. ثم عدنا الى أمريكا، حيث انضممت الى القوات المسلحة، واشتركت في حرب فيتنام خلال السنوات 1969-1974. من هو والدي الحقيقي؟
في فيتنام بدأت أسأل نفسي: من هو والدي الحقيقي؟ وأين هو الآن؟
بعد أن عدت من الحرب بدات أسأل أمي أكثر عن الموضوع. لا أعرف لماذا. لكني أذكر ان الاسرة كانت تتناول العشاء، وكانت والدتي تحكي قصة عني وأنا صغير.
وسألتها بعفوية عن أبي الحقيقي، قالت: لا أعرف أين هو الآن. لم نتقابل منذ الطلاق.
وقالت: أعرف أنه كان مقربا من الأميرين فهد بن عبد العزيز. وخالد بن عبد العزيز. كان ذلك في عهد الملك فيصل رحمه الله واقترحت الوالدة علي، ان كنت حقا أريد أن أعرف، أن اتصل بالسفارة السعودية.
عام 1975، كتبت أربعة خطابات الى السفارة السعودية، لكنهم لم يجيبوني على أي منها لا سلبا ولا ايجابا في وقت لاحق نسيت الموضوع تقريبا. وقلت في نفسي لقد مضى زمن طويل ولا بد أن والدي الحقيقي قد بلغ الثمانين، أو توفاه الله.
خلال تلك الفترة غيرت اسمي من كلايف أبو شادي الى كلايف ويلمان (ويلمان اسم والد امي)، ربما لأنني أحسست بأن انتمائي لأمي أقوى من الانتماء لأبي بالتبني، وأب حقيقي لا أعرف عنه شيئا.
وقبل 3 اسابيع، عدت الى المنزل فقالت لي زوجتي مارجريت:”لا أعرف كيف أنقل لك هذا الخبر؟”.
*قلت:مارجريت، مارجريت : هذه عادتك لن تغيرها أبدا. قولي لي ما حدث.
- قالت: والدك اتصل بالتلفون يبحث عنك.
الذي حدث ان د. عثمان الرواف، بعد أن أخذ المعلومات عني من المحقق الخاص، اتصل بالمنزل، بنتي رفعت التلفون، سمعت عثمان يقول :”أنا ابن عم والدك”. بنتي نادت والدتها: قائلة :” ماما ابن عم والدي في التلفون”. قالت لها والدتها:”ليس لوادك ابن عم، أو عم.
ربما ظنت مارغريت انه من الذين يبيعون أشياء بالتلفون – اعطتني الرقم واتصلت بعثمان.
وكانت أول كلمة قالها والدي:”نواف، كيف حالك؟” لقد ناداني باسمي الحقيقي الذي لم أسمع أحدا يناديني به من قبل. *وكيف كان شعورك يا كلايف؟
- في منتهى السعادة بالطبع. *هل بكيت؟
- لا لم أبك، ولكن عواطفي كانت تتلاطم في داخلي، كنت قد يئست من امكانية وجود أبي ثانيا. ثم فجأة أسمع صوته يقول لي هكذا وكأنه في المجهول “نواف، كيف حالك”.
*ووالدك هل بكى؟
-حين التقينا لم يبك، ولم أر له دمعة، لكنني على الهاتف قبل اللقاء أحسست أنه أشرق الدمع وعض، لقد تهدج صوته وتغير، ربما لم يبك، ولم تنزل دموعه، ولكنني متأكد أنه غص. *هل تعرف شيئا عن السعودية؟
- لا ابدا فأنا لم أزرها، غير انني قرأت عنها من قبل معلومات عامة. وأثناء حرب الخليج قرأت عنها أكثر، وسمعت عنها الكثير. *هل تعرف عربا، ألم تزر أي بلد عربي؟
- أعرف بعض العرب، لكنني لم أزر أي بلد عربي، وأنا الآن أستخرج جواز سفر لي ولعائلتي لزيارة السعودية، وابن عمي الدكتور عثمان الرواف يرتب أمر زيارتي مع العائلة للسعودية، وبالمناسبة فأنا تزوجت مرتين ولدي من زوجتي السابقة بنت اسمها اندروميدا عمرها 19 سنة، ولي من زوجتي الحالية بنت اسمها ماليسا وعمرها 13 سنة، وزوجتي من أصل عربي سوري من بيت معاد. *هل ستطلب الجنسية السعودية وتصبح سعوديا؟
- لم أفكر في هذا الأمر، لقد حصل كل شيء بسرعة مذهلة ليس هينا أن ترى أباك لأول مرة وعمرك 45 عاما. *ماذا تعمل يا كلايف الآن؟
- مثمن عقارات. *هل ستصبح مشهورا في السعودية والعالم العربي بعد أن ننشر قصتك وهل يضايقك هذا؟
- لا أبدا، فليعلم العالم كله أنني وجدت أبي.