نعيش في مصر الآن حالة كابوسية حقيقية ، بعد قرار شبه جماعي لدول العالم بوقف رحلاتها السياحية من وإلى المطارات المصرية وخاصة مطار شرم الشيخ ، وبعد أن افتتحت هذا المسار بريطانيا في نفس يوم وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي للندن ، ثم تبعتها الولايات المتحدة ثم فرنسا ثم تقاطرت الدول باتخاذ هذا القرار ، وتعلقنا بعدها "بقشة" روسيا واحتفلنا بأن بوتين رفض وقف الرحلات السياحية ، وأن السياحة الروسية هي الأهم وخاصة في جنوب سيناء ، فإذا بنا نتلقى الضربة الأعنف من "الصديق" بوتين ، والذي كان قراره أعنف ، لأنه شمل المطارات المصرية كافة وليس مطار شرم الشيخ وحده . من تحصيل الحاصل أن نقول أن هذه القرارات تعني تدميرا شبه كامل لما تبقى من "اقتصاديات السياحة" في مصر ، وهي أهم ما تبقى لنا من مصادر دخل العملة الأجنبية ، وهي المصدر الأكبر أيضا ، وتأتي الضربة في الوقت الأكثر سوءا على الاقتصاد الوطني ، الذي يعاني من اضطراب كبير وانهيار في الانتاجية ومعدلات النمو ووصول الاحتياطي النقدي الأجنبي إلى حافة الخطر ، وهو مرشح لمزيد من النزيف خلال الأشهر القليلة المقبلة التي ستشهد سداد استحقاقات ودائع ومستحقات شركات أجنبية ، وعند كتابة هذه السطور كانت الأخبار تتحدث عن استدعاء السيسي لمجلس الوزراء لاجتماع عاجل ، وهو قرار منطقي ، لأننا في ورطة حقيقية ، والخيارات المتاحة أمامنا ـ اقتصاديا ـ محدودة جدا ، ولسنا في زمان انتظار المعجزات ، لأن مصر فعلا بحاجة لمعجزة للخروج من هذه الأزمة بالغة السوء . أذكر أنني قبل عدة أشهر كتبت في هذه الزاوية ، أنبه إلى أن سوء الإدارة وسوء تقدير الموقف السياسي والاستخفاف بحجم الخطر والتحدي سيوردنا المهالك ، وقلت نصا : أن "الأسوأ لم يأت بعد" ، ولم أكن أقرأ الطالع ، ولكن كنت أقرأ المقدمات التي أراها أمام عيني في الواقع ، وكانت تفضي إلى أن هذا البلد يمشي "بالبركة" ، وأنه يعيش في ظلمات تخبط يتستر عليها دجل إعلام رخيص ومدلل لا يعنيه إنقاذ الوطن طالما انتفخت جيوبهم بعقود تصل للعشرة ملايين جنيه سنويا على هراء وبذاءات وقعدات مصاطب على شاشات فضائيات رجال الأعمال ، وإذا بنا ـ في أسبوع واحد ـ نواجه "فضيحة" اهتراء البنية الأساسية للصرف في مدن مصر بما فيها العاصمة الثانية ، ثم إذا بنا نواجه "كارثة" إسقاط الطائرة الروسية ، حيث تتحدث الصحافة الغربية عن "مهازل" في التدابير الأمنية في مصر ، رغم الصلاحيات المذهلة التي منحتها الدولة للأجهزة الأمنية باختلاف أنواعها . حادث إسقاط الطائرة لم يكن هو المبرر الوحيد لقرارات الدول الأجنبية لوقف الرحلات ، فقد أسقط القذافي قبل ذلك طائرة البان أمريكان فوق لوكيربي ، ودفع بعدها تعويضات بحوالي اثنين ونصف مليار دولار ، ولم تتوقف الرحلات من مطاري فرانكفورت الألماني وهيثرو البريطاني ، وهما من مرت بهما القنبلة ، المشكلة في حادث شرم الشيخ أنه متصل بنشاط تنظيمات إرهابية تخوض حربا على الدولة ، وأن تقديرات أجهزة الاستخبارات الأجنبية أن ما حدث يعني نجاح التنظيم الإرهابي في اختراق أجهزة رسمية أو منشآت حساسة مثل المطارات ، وأن هذه الفرضية تعني أن احتمالات حوادث أخرى مطروحة أيضا ، وهذا ما اضطر بوتين نفسه إلى "تجرع السم" والاعتراف الضمني بأن الطائرة ربما أسقطت بعمل إرهابي ، لأن هذا "السم" سيتحمله أمام شعبه ، الذي سيربط ـ بداهة ـ بين تورطه في حرب أهلية في سوريا كان الجميع يدرك أنها ستكلفه الكثير وبين إسقاط الطائرة . مصر في خطر حقيقي الآن ، وهو خطر وجودي بالفعل ، ولن يقبل أي مصري وطني شريف بحق أن تنهار الدولة أو أن تسقط ، لأن ثمن ذلك سيدفعه الجميع حكاما ومحكومين ، سلطة ومعارضة ، فهي سفينتنا جميعا ، ولن نسمح للوطن أن يركع أبدا ، أيا كان الخلاف السياسي ، ولكن هذا لا يكون بالأماني والأغاني أو الهتاف الذي ابتذلناه كثيرا بحياة مصر ، وإنما بالمراجعات الجادة والعاجلة والشجاعة ، وخاصة من المنظومة الحاكمة بكاملها ، آن الأوان للاعتراف بأن المسار خطأ ، وأن الحمل أثقل من أن تتحمله "مؤسسة" واحدة مهما كانت قدراتها أو تضحياتها ، وأن التحدي الذي تواجهه مصر لن تنتصر فيه إلا بوحدة شعبها ، وإحساس كل خلاياه بالكرامة ، وشعور كل قواه السياسية والأهلية بأنها شريكة في القرار وصناعته واتخاذه ، لكي تكون شريكة في المسؤولية عنه وعن تبعاته ، ليس عيبا أن يعترف "بشر" بأنه أخطأ ، أو أساء التقدير ، بل هذا يعظمه في أعين الناس ، ولا يعيب مسئولا ـ كبيرا كان أو صغيرا ـ أن يعلن تنحيه طواعية عن المسؤولية إذا وجد أنها أكبر من قدراته ، أو إذا كان ذلك طريقا للإنقاذ وتصحيح المسار ، لا بد من أن نعترف ونتصارح ـ ولوجه الله وحده ـ أن أزمة مصر هي أزمة إدارة سياسية ، وليست مجرد أزمة اقتصادية أو أمنية ، وإذا نجحت مصر في حل تلك الأزمة ـ بذكاء وحكمة وشجاعة ـ فستكون قد امتلكت مفتاح حل جميع الأزمات الأخرى ، بدءا من الاقتصاد وانتهاء بالإرهاب .