تألمت كثيرا وأنا أشاهد مقطع فيديو قصير لمراسل قناة الجزيرة القطرية في لندن وهو يسأل الرئيس عبد الفتاح السيسي عقب خروجه من لقاء "كاميرون" : متى ستفرج عن المعتقلين يا سيد سيسي ، وهو سؤال نمطي ويتردد كثيرا في الصحافة الأجنبية أو إعلامها بشكل عام ، لأنها قضية أصبحت أشهر من نار على علم كما يقولون ، وكانت مجال نقاشات في مجلس العموم البريطاني قبل أيام وعقد لها جلسة خاصة في الكونجرس الأمريكي قبل أسبوع ، وبطبيعة الحال ، لم يكن سؤال المراسل هو الذي آلمني ، فهو "عادي" في المجتمعات الغربية "الحرة" ، ولكن الذي آلمني أن مجموعة من الإعلاميين المصاحبين للرئيس فور سماعهم للسؤال صرخوا وتنادوا فيما بينهم : اهتفوا يا جماعة ، تحيا مصر تحيا مصر ، وظلوا يرددون الهتاف بصوت جماعي للتشويش على صوت مراسل القناة الفضائية ، شعرت بغصة وأنا أجد هذا الهتاف المهيب وصاحب الذكرى ذات القدسية في الضمير الوطني ، أيام الانتصارات وأيام المجد وأيام الاستقلال ، وقد تحول إلى مجرد أداة تشويش على الإعلاميين أو صناعة "هوجة" صوتية للتغطية على أصوات معارضين أو مختلفين ، ومن يلاحظ طريقة وتوقيت ترديد الهتاف نفسه هنا في الداخل يدرك بسهولة أنه أصبح يستخدم للتشويش على أي نقد عقلاني أو موضوعي ، وقطع للحوار وإنهاء لأي رأي مخالف ، أداة قمع وإخراس لألسنة الاحتجاج لا غير ، لم يعد الهتاف "تحيا مصر" تعبيرا عن ضمير وطني أو بهجة بنصر عظيم أو إحساس راق ورسالة إنسانية من مصر للعالم ، وإنما تحول ـ في زمن الإسفاف السياسي والتدني وبيع الضمير ـ إلى إهانة لصورة الوطن وسمعته وتحضر ناسه ، تحول إلى مجرد أداة تشبيح وبلطجة صوتية تشبه ما تفعله النساء المحترفات للمشاجرات والشتائم في الأحياء الشعبية واللاتي يتم استئجارهن من قبل أطراف نزاع لم يجد طريقه إلى جلسات العقلاء والحكماء . زيارة السيسي إلى بريطانيا لا تحمل أي قيمة فارقة ، هي ـ كما عبر الرئيس في اللقاء التثقيفي الأخير بالقوات المسلحة ـ محاولة لتطبيع صورة النظام الجديد في العالم الخارجي ، ومحو صورة ما يتم نشره على نطاق واسع من أنه "انقلاب" على الديمقراطية ، ولا يوجد أي ملف محدد يمكنك أن تضع يدك عليه وتتفهم أنه مبرر قوي للزيارة ، فقط لدى الطرف الآخر مبرراته ، والتي جعلته يتجرع الهوان بسبب هذه الزيارة ، لأن الرأي العام هناك غاضب من انتهازية حكومة "كاميرون" وتجاهلها لملف إهدار حقوق الإنسان في مصر وتراجع الديمقراطية ، بريطانيا تنظر إلى مصر على أنها "سوق" ، يمكن احتلابه من خلال عدة صفقات ، مدركة أن عواصم خليجية تضمن "الصفقة" عندما تتعثر مصر ، والبريطانيون لا يريدون ترك "السوق" الشرق أوسطي ، للتمدد الفرنسي وصفقاته ، وكذلك الروس ، بعد الفراغ الذي أحدثه انسحاب الأمريكيين إلى حد كبير ، سياسيا واقتصاديا ، من المنطقة ، وقد نجح الفرنسيون في اختطاف عدة صفقات بمليارات الدولارات ، من بلاد تئن من الفقر والجوع واهتراء بنيتها الأساسية ، ولكن "الصياد" الأوربي لا يرحم فرائسه ، مهما كان بؤس حالهم ، وتاريخهم شاهد . بالنسبة لمصر لا مكاسب على الإطلاق تقريبا ، بل كان لافتا جدا أن الحكومة البريطانية قررت سحب سياحها من شرم الشيخ فورا ، وأعلنت أن الطائرة الروسية أسقطت بعمل إرهابي عن طريق قنبلة ، وكان هذا الإعلان المفاجئ بعد وصول السيسي إلى لندن بساعتين فقط ، فبدت وكأنها رسالة تقول له : لسنا بوارد تقديم أي تنازلات لحكمك ، لأن البريطانيين ، كما الفرنسيين كما الروس ، يدركون أن حاجة السيسي الأساسية هي الدعم السياسي لنظامه وتفهم سياساته المتشددة ضد المعارضين وحاجتهم هم إليه للدفاع عن مصالحهم ، وتأكيده أنه خط الدفاع الأول عنهم ضد الإرهاب ، وأن أبناءه الجنود يموتون دفاعا عن أمنهم ومصالحهم هم أيضا وأنه يخوض المعركة ضد الإرهاب نيابة عنهم جميعا ، وهذا ما يجعل موقفه ضعيفا للغاية في تلك الزيارات ، موقف المحتاج والطرف الأضعف المهزوز ، وهم يفهمون ذلك بالحاسة الانتهازية الخبيرة ، التي احترفوا التعامل بها مع نظم العالم الثالث على مدار نصف القرن الأخير ، أو في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر . فارق كبير بين أن تذهب إليهم وهم مدركون ضعفك وانقسام شعبك وحاجتك لدعم "خارجي" ، وبين أن تذهب إليهم ندا وحاكما ديمقراطيا منتخبا أو تمثل إجماعا لمواطنيك ، فهم يفهمون ـ حينها ـ أن ذهابك إليهم ليس بغرض دعمك أنت أو حماية نظامك ، وإنما دعم وطنك وشعبك واقتصاده وتنميته ، وأن اللقاء على أقدام متكافئة ، وقامات متساوية ، ومنافع متبادلة ، ومصالح عادلة بين الطرفين ، وهذه نقطة الضعف المحورية في جميع سفرات السيسي للخارج منذ توليه الرئاسة .