اتجه نظام النقد الدولي في العصر الحديث إلى استبدال الورق النقدي بالذهب، في عام 1944م، وتم حينها الاتفاق على الالتزام بغطاء ذهبي محدد لكل دولار، ثم ألغي الغطاء الذهبي في عام 1971م، فبناء على اتفاقية «بريتون وودز»، عام 1944م، تمت صياغة النظام النقدي الحديث، وقد تم إبرام الاتفاقية في مؤتمر حضره ممثلو 44 دولة، بهدف جلب الاستقرار للنظام النقدي العالمي، وتشجيع حركة التجارة. وبناء على ذلك رأى بعض المعاصرين أن النقود الورقية لم تعد تأخذ حكم الذهب وبنوا عليه رأيا آخر هو القول إن هذه النقود لا يجري فيها الربا وإن عمل المصارف التقليدية في الوقت الحالي ليس هو الربا. هذا الرأي عرضناه عضو هيئة التدريس في جامعة الملك فهد فقال:
وقد كان من حكمة الله تعالى أن ألهم البشرية من قديم الزمان ربط الأثمان وقيم الأشياء بمعدنين نفيسين، هما: الذهب والفضة، وكان هذا الربط سبباً في استقرار الأسواق، واطراد العمليات التجارية، بيعاً وشراء وإجارة وهلم جرا. وأضاف: كانت العملات الورقية مغطاة بالذهب بحسب المعيار الدولي السائد في القرنين الماضيين، وهو ما يجعل الذهب قاعدة لتحديد قيمة العملة، وتتكفل أي دولة بتحويل عملتها الورقية إلى ذهب عند الطلب، لكن منذ سبعينيات القرن العشرين الميلادي، تم إلغاء الغطاء الذهبي للعملات الورقية، في عام 1971م، وبحسب المزيني فإن هذا الأمر هو الذي خسر به الاقتصاد العالمي معياراً محكماً يضبط حركة الاقتصاد العالمي، هو الذهب، الذي كان يكبح التضخم، ويحد من الإنفاق الحكومي وينظمه، ويقوم بتثبيت أسعار العملات.
وتابع: ولما رأى بعض المعاصرين أن مادة الورق النقدي هي: الورق، وليس الذهب، ونظر نظرة ظاهرية، ظن أن هذا الورق لا تجري عليه أحكام النقود الذهبية، وبنى بعضهم على هذا الوهم وهماً آخر، وهو أنهم اعتقدوا أنه لا ربا اليوم في المصارف التقليدية، وأن هذه النقود الورقية لا يدخلها الربا مطلقاً، لاعتقاده أن الربا مختص بالذهب والفضة، هذه مغالطة والكلام للمزيني لأن الإسلام جاء والناس يتعاملون بربا الديون، فنزل قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{.
فحسمت هذه الآية حكم الزيادة في القروض التمويلية، إذا تأخر المدين في السداد، وقوله: أضعافاً مضاعفة، جاء لبيان الواقع في ذلك العصر، وإلا فالزيادة على الدين محرمة مطلقاً، سواء تضاعف الدين أو لا، وسواء كان الدين ذهباً أو فضة، أو كان دولارات أو ريالات، أو كان سلعاً وأعياناً، وسواء كانت الزيادة مشروطة أولاً، أو غير مشروطة، وعلى هذا اتفق علماء المذاهب الفقهية.
وأضاف المزيني: القول إن العملات الورقية لا تأخذ أحكام النقود من حيث الربا والزكاة إنما هو مكابرة للواقع، فالناس اليوم لا يعرفون النقود إلا هذه العملات الورقية، فقد حلت محل الدنانير والدراهم القديمة، فصارت أثماناً للمبيعات، ومخزناً للقيم، ووسيطاً مقبولاً في سائر المعاملات، والعلة في الذهب ليست كونه معدناً نفيساً، فثمة ما هو أنفس منه وأندر، وإنما لرواجه بين الناس، وكونه ثمناً ووسيطاً في المعاملات، وهذا بالضبط هو الدور الذي تؤديه النقود الورقية المعاصرة.
وتابع: للفقهاء المعاصرين طريقان في التعريف بحكم النقود الورقية، وهم متفقون على جريان أحكام النقود الذهبية على النقود الورقية، لكن منهم من يسلك مسلك القياس، فيقيس الورق النقدي على الذهب والفضة، بجامع الثمنية في كلٍّ منهما، فها هنا أصلٌ وهو النقدان، وفرعٌ وهو الورق النقدي، وعلةٌ وهي مطلق الثمنية، وحكمٌ وهو منع الربا فيها، ووجوب الزكاة فيها إذا بلغت نصاباً، فها هنا نجد مقيساً وهو العملة الورقية، ومقيساً عليه وهو الذهب والفضة، وعلة الحكم ـ وهي الثمنية ـ، والحكم حرمة جريان الربا، ووجوب الزكاة، وجواز جعل العملات الورقية رأسمال السلم، وهذا بحسب المزيني قياس سليم من حيث الصناعة الفقهية.
وأضاف: يذهب فريق آخر إلى أنه لا قياس هنا، وإنما تلحق الأوراق النقدية بالدنانير الشرعية المنصوص عليها، من باب مفهوم الموافقة، أي أن الدينار الورقي داخل في الدينار الشرعي المذكور في الأحاديث، باعتبار أن النصوص لم تحدد وزناً معيناً للدينار، وهكذا سائر العملات.
ويمضي بقوله: على أنَّ المسألة قد اشتبهت على بعض المعاصرين في بداية الأمر، وبعد حوارات طويلة بينهم؛ صدرَت قرارات المجامع الفقهية، كمجمع الفقه الإسلامي في مكة (1402هـ)، باعتبار الورق النقدي نقداً قائماً بذاته، نظراً إلى أنَّ العلة في النقدين مطلق الثمنية، وليست الثمنية مقتصرةً على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل، ونظراً إلى أن العملة الورقية أصبحت ثمناً، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تُقَوَّمُ الأشياء في هذا العصر، كما صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة (1407هـ) باعتبار الأوراق النقدية أثماناً اعتبارية، لها أحكام النقدين جميعها.
ونبه المزيني إلى أن الفقهاء المعاصرين لا يكادون يختلفون في تنزيل أحكام النقود الذهبية على النقود الورقية، وعليه فما تتعامل به المصارف التقليدية اليوم من الفوائد أخذاً وإعطاء على القروض هو من المحرمات إجماعاً، حتى لو لم نقل بجريان أحكام النقود الذهبية على الورقية، وكذلك ما يقع من مخالفة أحكام الصرف في العملات الورقية كتأجيل أحد العوضين؛ هو من المحرمات المتفق عليها إلا خلافاً شاذاً ليس له حظ من النظر.