المجتمع الوحيد في هذا العالم الذي يخاف من العين والحسد حد الرهاب المرضى والوساوس، ومع هذا يبالغ في أسلوب حياته بإظهار كل ما من شأنه يستدعي العين والحسد!!!
الناس هنا تقترض وتتحمل فوق قدرتها المادية من أجل أن تقيم حفلاً باهراً يخلب العقول، على حد زعمها، لزواج أو نجاح أو «مِلكة» أو تخرج أو مسكن جديد ... وطوال فترة الإعداد لحفلها تبدو متوجسة ومشغولة من طريقة التصدي لعين الحساد والمحرومين ومن لا يذكرون الله وغيرهم ممن سيشرفون الحفل!! فتعمد إلى توصية العاملات أثناء الحفل بجمع غسيل فناجين القهوة للضيوف المحترمين، وتشدد على الطقاقة بالإعلان كل خمس ثوانٍ أثناء زفة العروس، التي لا تختلف عن ملايين العرائس، وبأعلى صوت جهوري كمن يهدد «اذكروا الله يا حريم!!!.. اذكروا الله!!!.. اذكروا الله يا حريم!! .. يا حريم قلنا اذكروا الله!!!!» حتى يبادرك الشعور بأنك مُهزأ لا محالة، متهم في كل الأحوال.. وأن المدعوين لسوا سوى مجموعة من الأشرار الحسدة الحقودين!!!
الناس هنا في كل إجازة رسمية أو مسروقة يستعرضون تذاكر سفرهم إلى إسطنبول وزيلامسي ولندن بروفايلات لجوالاتهم قبل السفر بشهر، ويزعجون خلق الله بصور ولقطات تفاصيل رحلتهم طوال أيام السفر، ومع هذا، يظلون متوجسين طوال الوقت من أعين الحسّاد، يحيلون كل ضياع جواز سفر، أو نكد، أو خلاف، أو مرض أحد الأفراد وتعطيل برنامج السفرية إلى العين التي ما صلّت على النبي!!
الأطفال في هذا المجتمع هم الأكثر توافراً في البيوت والمناسبات والأسواق والمطاعم والشوارع وفي كل مكان، ومع هذا تكتظ بروفايلات الجوالات بصور «البزارين» كأنهم عملة نادرة أو ثروة مهددة بالانقراض، حتى يتوهم الغريب عن المجتمع بأن الناس هنا لا تنجب إلا من خلال دعم الأنابيب.. أو بحدوث معجزة، والكارثة الأكثر غرابة حين تأتيك رسائل كل يوم تحذر من السحرة أو العين التي تفتك بصور الأطفال في البروفايلات!!!
النساء هنا هنّ الأكثر مباهاة بتصوير جلسات العائلة في المطاعم ولمَّة الأهل بالاستراحات والشاليهات، وصحبة رومانسية في مقهى أو سفر مع الزوج، وهنّ، في الوقت نفسه، الأكثر تشاؤماً وتوجساً من العين؛ فكل اضطراب معوي مفاجئ أو ارتفاع حرارة للصبي، في تلك الليلة، مرجّح أن يكون من عين «منيرة» المحرومة من الأطفال، وكل مشاجرة مع الزوج من عين «هيلة» المطلقة، وكل مخالفة من ساهر من عين «نورة» الحقودة .. وهلّم جرا من أسماء الصديقات والقريبات والأخوات أعضاء القروب المحترم.
المجتمع الوحيد الذي يبالغ في ظهور ثرائه ووجاهته وزينته ومفاتنه، ومع هذا لا يريدك أن تمتدحه!! بل يرتاع من ثنائك خوفاً من العين!!
المجتمع الوحيد الذي مقرراته الدراسية ورسائله على الواتس وتغريداته على وخطاباته الإعلامية وسواليفه في المجالس تعزز مجملها علاقة العبد بربه، ومع هذا لا يثق معظم أفراده بأن عين الله وعنايته، عز وجل، أقوى حصناً من عين البشر، والتوسل برعايته، والتوكل عليه، جلّت قدرته، أقوى فتكاً من شر كل حاسد!!!
ولأن الفرد نتاج بيئته؛ فإن مجمل الناس هنا يعيشون تحت يقين أن العين واقعة، واقعة، لا محالة!! إنما المسألة مسألة وقت، وعلينا أن نقضي حياتنا في التخمين والاجتهاد فيمن كان وسيكون العائن الحقود!!!
-----------