من يقرأ في أحوال أهل البركة وكيف بارك الله - تعالى - لهم في أحوالهم وأرزاقهم يجد العجب العجاب.
فهذا عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يهاجر إلى المدينة تاركاً كل أمواله في مكة فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: تَعَالَ حَتَّى أُقَاسِمَكَ مَالِي، وَأَنْزِلَ لَكَ عَنْ أَيِّ امْرَأَتَيَّ شِئْتَ، فَأَكْفِيكَ الْعَمَلَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّوُنِي عَلَى السُّوقِ" [أخرجه مالك "الموطأ(1570 "أحمد(3/190(13007) و"البُخَارِي(2049]. ودخل ابنُ عَوفٍ سوقَ المدينة وعمره ثلاثٌ وأربعون سَنَة، وكان صنَّاع السّوق وسَمَاسِرته من يهود بني قينقاع، فلم يثْنِ عزيمتَه، ولم يفتَّ في همَّته هذا الاحتكارُ اليهودي، بل زاحمَ في السُّوق، واشترى وباع، وربح وادَّخر، وهكذا سارتْ به الأيَّام، وهو يكدح في العمل وطلَب الحلال والعفاف. سأله أحد أصحابه: "بِمَ أدركتَ من التِّجارة ما أدْركتَ؟ فقال: "لأنِّي لم أشترِ معيبًا، ولم أُرِد ربحًا كثيرًا، والله يبارك لِمَنْ يشاء". وبارك الله لابنِ عوف في تِجارتِه، فكان لا يشتري شيئًا إلاَّ ربِح فيه، حتَّى قال عن نفْسِه مُتَعجِّبًا: "لقد رأيتُني لو رفعتُ حجرًا، لوجدتُ تَحتَه فضَّة وذهبًا". وكان - رضي الله عنه - لا يهنأ إلاَّ بإنفاق المال، سرًّا وجهرًا، في العُسْر واليُسْر، حتَّى ملك القُلوبَ بِماله، فشاطرَه بالانتِفاع في هذا المال أهلُه وأقاربُه، وإخوانُه ومجتمعه، حتَّى قيل: "كان أهلُ المدينة عيالاً على عبدالرحمن بن عوف: ثلُثٌ يُقْرِضهم مالَه، وثلُث يقضي دَينهم، ويَصِلُ ثلثًا". سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يدْعو النَّاس للصَّدقة، لكي يُجهِّز سريَّة، فذهب إلى بيْتِه مسرعًا ثُمَّ عاد، ونثَر بين يدَي النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف دينار، هي نِصْف مالِه، فدعا له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ماله. قدَّم يومًا لجيوش الإسلام خمسَمائةِ فرسٍ، ومرَّة ألفًا وخمسمائة راحلة، باع يومًا أرضًا بأرْبعين ألف درهم، فقسمها في فقراء أقاربه، والمهاجرين وأمَّهات المؤمنين. في غزوة تَبُوك، حينما كان الحاجةُ للمال أكثرَ من الرجال، أنفقَ ابنُ عوف إنفاق مَن لا يخْشى الفقر. وتصدَّق بصدقةٍ عظيمة، حتَّى قال عمر بن الخطَّاب بعد أن رأى كثرةَ صدقتِه: "إنّي لا أرى عبدالرَّحمن إلاَّ مرتكبًا إثمًا، فما ترك لأهله شيئًا". ولكن البركة في ماله جعلته يترك لأهله كثيرا، قال أَنَس - رضي الله عنه -: فَلَقَدْ رَأَيْته قُسِمَ لِكُلِّ اِمْرَأَة مِنْ نِسَائِهِ بَعْد مَوْته مِائَة أَلْف ". قُلْت: مَاتَ عَنْ أَرْبَع نِسْوَة فَيَكُون جَمِيع تَرِكَته ثَلَاثَة آلَاف أَلْف وَمِائَتَيْ أَلْف. [راجع: فتح الباري لابن حجر 14/448]. وهذا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الذي جهز جيش العُسْرَة بتسعمائةٍ وخمسين بعيراً وخمسين فرساً، واستغرق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء له يومها، ورفع يديه حتى أُريَ بياض إبطيه000فقد جاء عثمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بألف دينار حين جهّز جيش العسرة فنثرها في حجره، فجعل - صلى الله عليه وسلم - يقلبها ويقول: (ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم) قالها مرارا. [أحمد في فضائل الصحابة (1/518، رقم 854)]. واشترى بئر رومة بعشرين ألف درهم، وقد قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ يَحْفِرْ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ». فَحَفَرَهَا عُثْمَانُ، وَقَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ». فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ. [فيض الباري 6/89]. وقيل: انبسطت الأموال في زمنه - رضي الله عنه - حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمائة ألف، ونخلة بألف درهم، وحجّ بالناس عشر حجج متوالية0 [المحب الطبري: الرياض النضرة في مناقب العشرة 1/49]. فالبركة لا تنتهي من الكون، وأهل البركة لا يخلو منهم الزمان والمكان، قد تنقص البركة أو تقل لأسبابها ولكن لا تنمحي بالكلية من الأرض، ولقد بشرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِّ، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلاَ يَجِدُ أَحَدا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأنْهَارًا، وَحَتَّى يَكْثُرَ الْهَرج. قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ يَارَسُولَ الله؛ قَالَ: الْقَتْلُ. الْقَتْلُ) [أخرجه أحمد 2/370(8819) و"مسلم(3/84 و8/170]. وفي حديث وصف المهدي المنتظر: (ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ) [أخرجه أحمد 4/181(17779) و"مسلم"8/196(7483)]. وأخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البركة في الجنة فقال، عَنْ عَامِرِ بْنِ زَيْدٍ الْبَكَالِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيَّ، يَقُولُ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن الحَوْضُ، وذكر الجنة، قال: الأعرابي، أَفِيهَا فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ فِيهَا شَجَرَةً تُدْعَى طُوبَى، هِيَ تُطَابِقُ الْفِرْدَوْسَ، قَالَ: أَيُّ شَجَرِ أَرْضِنَا تُشْبِهُ؟ قَالَ: لَيْسَ شِبْهُ شَيْءٍ مِنْ شَجَرِ أَرْضِكُمْ، وَلَكِنْ أَتَيْتَ الشَّامَ؟ فَقَالَ: لاَ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّهَا تُشْبِهُ شَجَرَةً بِالشَّامِ، تُدْعَى جَوْزٌ، تَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ، وَيَنْتَشِرُ أَعْلاَهاَ، قَالَ: مَا عِظَمُ أَصْلِهَا؟ قَالَ، لَوِ ارْتَحَلْتَ جَذَعَةً مِنْ إِبِلِ أَهْلِكَ مَا أَحَطْتَ بِأَصْلِهَا، حَتَّى تَنْكَسِرَ تَرْقُوَتَاهَا هَرَمًا. قَالَ: فِيهَا عِنَبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ فِيهَا؟ قَالَ: مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الأَبْقَعِ، لاَ يَنْثَنِي، وَلاَ يَفْتُرُ، قَالَ: مَا عِظَمُ الْحَبَّةِ مِنْهَا؟ قَالَ: هَلْ ذَبَحَ أَبُوكَمْ تَيْسًا مِنْ غَنَمِهِ قَطُّ عَظِيمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسَلَخَ إِهَابَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّكَ، فَقَالَ: ادْبِغِي لَنَا هَذَا، ثُمَّ افْرِي لَنَا مِنْهُ دَلْوًا، نَرْوِي بِهِ مَاشِيَتَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ تُشْبِعُنِي وَأَهْلَ بَيْتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَامَّةَ عَشِيرَتِكَ) [أخرجه أحمد 4/183(17792)]. والبركة ليست في المال والرزق فقط إنما تكون في كل شيء، تكون في الولد والأهل والأصدقاء والجيران، وفي العلم والوقت، ومن يقرأ سير أعلام وعلماء السلف يجد العجب العجاب ويستشعر كيف بارك الله لهم في علمهم وأوقاتهم، فها هو ابن جرير الطبري قد مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة وقد صار مجموع ما صنفه نحو 358 ألف ورقة، وقد ولد بن جرير سنة 224هـ وتوفى سنة 310هـ فعاش 81 سنة فإذا طرحنا منها سنة قبل البلوغ وقدرناها بأربع عشرة سنة يكون قد بقى ابن جرير سنتين وسبعين سنة يكتب كل يوم 14 ورقة فإذا حسبنا الاثنين والسبعين سنة وجعلت كل يوم منها 14 ورقة تضيفا كان مجموع ما صنعه نحو 358 ألف ورقة. (المختار الاسلامي )