من مذكرات الدكتور معروف الدواليبي رحمه الله:
عند لقاء الملك فيصل رحمه الله مع الرئيس الفرنسي ديغول ، ومما أعجبني سرعة بديهته ومعرفته للتاريخ وتقديمه لمصالح الأمة قبل كل شيء. يقول الدكتور معروف رحمه الله عن زيارة الملك فيصل لباريس ” …. وكان اللقاء على غداء فقط . وكان الرئيس ديغول يراعي الحمية في الطعام والشراب والنوم وأوقاته منضبطة في قصر الإليزيه ، وكان مع فيصل الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون . وطلع فوراً إلى اللقاء ، رأساً لرأس ، ولا يوجد معهما سوى مترجم من عند ديغول قال ديغول : يتحدث الناس بلهجة متعالية أنكم يا جلالة الملك تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر . إسرائيل أصبحت أمراً ، ولا يقبل أحد في العالم رفع هذا الأمر الواقع.
فأجابه فيصل رحمه الله : يا فخامة الرئيس ، أنا أستغرب كلامك ؛ إن هتلر احتل باريس وأصبح احتلاله أمر واقعاً ، وكل فرنسا استسلمت إلا أنت ! فانسحبت مع الجيش الإنكليزي ، وبقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلبت عليه. وألمانيا تنتهز الفرصة من وقت لآخر لخلافها معكم على منطقة الألزاس واللورين. كلما احتلتها وقف الشعب الفرنسي ينتظر حرباً عالمية ليستعيدها ، فلا أنت رضخت للأمر الواقع ولا شعبك رضخ ؛ فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع . والويل عندئذ يا فخامة الرئيس للضعيف من القوي إذا أحتله القوي وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديغول أن الاحتلال إذا أصبح واقعاً فقد أصبح مشروعاً.
فدهش ديغول من سرعة البديهة والخلاصة المركزة بهذا الشكل ، وكان ديغول لم يستسلم ويتراجع ، وإنما غيّر لهجته متأثراً بما سمع ، وقال : يا جلالة الملك ، لا تنسَ أن هؤلاء اليهود يقولون : إن فلسطين وطنهم الأصلي ، وجدهم الأعلى إسرائيل وُلِد هناك. قال فيصل : فخامة الرئيس أنا من الأشخاص الذين يعجبون بك ويحترمونك ، لأنك رجل متدين مؤمن بدينك ، وأنا يسرني أن ألتقي بمن يخلص لدينه ، وأنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس . أما قرأت أن اليهود جاؤوا من مصر غزاة فاتحين ، حرقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال ، ما تركوا مدينة إلا أحرقوها ، فكيف تقول أن فلسطين بلدهم ، وهي للكنعانيين العرب ، واليهود مستعمرون . وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل منذ أربعة آلاف سنة ، فلماذا لا تعيد استعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة ؟ أنصلح خريطة العالم لمصلحة اليهود ، ولا نصلحها لمصلحة روما عندما كانت تحتل فرنسا والبحر الأبيض كله وإنكلترا أيضاً؟ ونحن العرب أمضينا مئتي سنة في جنوب فرنسا ، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة ثم نفوا بعدها . وهذا مثال تاريخي أيضاً . قال ديغول : ولكنهم يقولون : في فلسطين وُلِد أبوهم. قال فيصل : غريب!! عندك الآن مئة وخمسون دولة لها سفراء في باريس ، وأكثر السفراء يولد لهم أولاد في باريس ، أفلوا رجع السفراء إلى بلادهم ، ثم جاءت ظروف صار فيها هؤلاء السفراء رؤساء دول ، وجاءوا يطالبونك باسم حق الولادة بباريس ، فمسكينة باريس ، لا أدري لمن ستكون؟!
هنالك سكت ديغول ، وضرب الجرس مستدعياً بومبيدو ، وكان جالساً مع الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون في الخارج ، وقال له الآن فهمت القضية الفلسطينية ، أوقفوا السلاح المصدر لإسرائيل . وكانت إسرائيل تحارب بأسلحة فرنسية وليست امريكية . صحيح أنها أخذت سلاح من السوفيات ، ولكن سلاحها في معظمه كان فرنسياً . ولا سيما الطيران ، وكان متقدما . وهكذا قطع السلاح الفرنسي عن إسرائيل منذ ذلك اليوم من عام 1967 قبل العدوان الثلاثي على مصر بأربعة أيام.
----------------------------