كان يومئذٍ غلاماً لم يجاوِزِ الحُلُمَ، وكان يَسْرَحُ في شِعابِ (1) مكَّةَ بعيداً عن النَّاسِ، ومعه غَنَمٌ يرعاها لِسَيِّدٍ من ساداتِ قريش هو عُقْبَةُ بنُ أبي مُعَيطٍ .
كان النـاسُ يُنـادونَه: "ابنَ أمِّ عَبْدٍ" أمَّا اسمهُ فهو عبدُ اللّهِ وأمَّا اسـمُ أبيه "فَمَسْعُود".
كان الْغُلامُ يَسْمَعُ بِأخْبَارِ النبَّي الذي ظَهَرَ في قومِه فلا يأبَه لها (2) لِصِغَرِ سِنِّهِ من جِهَةٍ ، وَلِبُعْدِهِ عنِ المجتَمَع المكِّي من جهةٍ أخْرَ ى، فقد دأب على أنْ يخرجَ بغنم عُقْبَةَ مُنْذُ البُكورِ ثُمَّ لا يعودُ بها إِلاَّ إِذا أقْبَلَ اللَّيْلُ.
وفي ذات يوم أبصَرَ الغلامُ المكي عبدُ اللّهِ بنُ مَسْعُودٍ كَهْلَيْنِ عليهما الْوَقَارُ يَتَّجهان نَحْوَه مِنْ بَعيدٍ ، وقد أخذَ الجُهْدُ مِنْهُما كُلَّ مَأخَذٍ (3)، واشتدَّ عليهما الظَّمَأ حَتَّى جَفَّتْ منهما الشفاهُ والحلوقُ. فلمّا وقفا عليه، سَلَّما وقالا:
يا غلامُ، احْلِبْ لنا من هذِهِ الشِّياهِ ما نُطْفِئُ به ظَمَأنا ونَبُلُّ عُروقَنا.
فقال الغلامُ:
لا أفعَلُ، فالْغَنَمُ لَيْسَتْ لي، وأنا عليها مُؤتَمنٌ ... فلم يُنْكِرِ الرَّجُلانِ قَوْلَهُ، وبَدَا على وجهيهما الرِّضا عَنْهُ.
ثم قال له أحَدُهُما:
دُلَّني على شاةٍ لم ينْزُ عليها فَحْلٌ ، فأشارَ الغُلامُ إِلى شاةٍ صغيرَةٍ قريبَةٍ منه، فتقدَّمَ منها الرجلُ واعْتَقَلَهَا، وجعلَ يَمْسَح ضَرْعَهَا (4) بِيَدِه وهو يَذْكُرُ عليها اسمَ اللّهِ، فنظرَ إليه الغلامُ في دَهْشَةٍ وقال في نفسهِ:
ومتى كانَتِ الشِّياهُ الصغيرةُ التي لم تَنْزُ عليها الفُحولُ تدرُّ لبناً؟!
لكِنَّ ضرْعَ الشَاة ما لَبِثَ أن انْتَفَخَ، وطَفِق اللَّبنُ يَنْبَثِقُ منه ثَرّاً (5) غزيراً.
فَأخَذَ الرَّجُلُ الآخَر حجراً مُجَوَّفاً من الأرْضِ، وملأه باللَّبنِ، وشرِبَ منه هو وصاحِبُه، ثم سقيَاني معهما، وأنا لا أكاد أصدقُ ما أرى.
فلمَّا ارْتَوَيْنَا، قالَ الرّجُلُ المبارَكُ لِضَرْع الشَّاةِ: اِنْقَبِضْ، فما زال يَنْقَبِضُ حتَّى عادَ إلى ما كان عليه.
عند ذلك قلتُ للرَّجُل المبارَكِ:
عَلِّمْني مِن هذا القولِ الذي قلتَه.
فقال لي: إنَّك غلام مُعَلَّم.
***
كانت هذهِ بدايةَ قِصَّةِ عبدِ اللّهِ بنِ مسعودٍ مع الإسْلامِ... إذ لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ المبارَكُ إلاَّ رسولَ اللّهِ صلوات اللّه عليه، ولم يكن صاحبُه إلا الصديقَ رَضِىَ اللّهُ عنها. فقد نَفَرا (6) في ذلِكَ اليومِ إلى شِعابِ مَكَّةَ لِفَرْطِ ما أرهَقَتْهُمَا (7) قريشا وَلِشدَّةِ ما أنزَلتْ بهما من بَلاءٍ
وكما أحَبَّ الغلامُ الرسولَ الكريمَ وصاحِبَهُ، وتَعَلَّقَ بهما فقد أعجب الرسولُ وصاحبُه بالغُلامِ و أكبَرَا أمَانَتَهُ وَحَزْمَهُ وَتَوَسَّمَا فيه الخيْرَ (8).
لم يمضِ غيرُ قليل حتَّى أسلمَ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ وعَرَضَ نَفْسَهُ على رسولِ اللّهِ ليخدِمَه، فَوَضَعه الرسولُ صلوات اللّهِ عليه في خِدْمَتِهِ.
ومُنْذُ ذلك اليومِ انْتَقَلَ الغلامُ المَحْظُوظُ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ من رعاية الغَنم إِلى خِدْمَةِ سَيِّدِ الخَلقَ والأممَ.
***
لزمَ عبدُ اللّه بنُ مسعودِ رسولَ اللّهِ صلواتُ اللّهِ عليه مُلاَزَمَةَ الظِّلِّ لصاحبه، فكَان يُرافِقُه في حِلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، ويصاحِبهُ داخِلَ بيتهِ وخارجَه... إذْ كان يوقِظُه إِذا نام، وَيَسْتُرُهُ إِذا اغْتَسَلَ، ويُلْبِسُهُ نَعْلَيْهِ إِذا أرادَ الخروجَ، ويَخْلَعُهُما من قَدَمَيْه إذا هَمَّ بالدخولِ، ويحمِـلُ له عصـاه وَسِـوَاكَه، وَيَلجُ الحُجْرَةَ بَيْنَ يَدَيْه إذا أوى إِلى حُجْرَتِه…
بلْ إنَّ الرسولَ عليه الصلاةُ والسَّلامُ أذِنَ له بالدُّخولِ عليه مَتى شاءَ، والوقوف على سِرّهِ من غيرِ تَحَرُّج وَلا تأثم، حتَّى دُعِيَ بِصَاحـبِ سِرِّ رسولِ اللّهِ.
***
رُبِّيَ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ في بيتِ رسـولِ اللّهِ، فاهْتَدَى بِهَدْيِهِ وَتَخَـلَّقَ بِشَمَائلهِ (9)، وَتَابَعهُ في كل خَصْلَةٍ من خِصالِه حتَّى قيل عنه: إنَّهُ أقربُ النَّاسِ إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم هَدْياً وَسَمْتا (10)
***
وَتَعَلَّمَ ابنُ مسعودٍ في مَدْرَسَةِ الرسول صَلواتُ اللّهِ عليه فكان من أقرَأ الصَّحابةِ للقرَآنِ، وأفقَهِهِمْ لمعانيه وأعلَمِهِمْ بِشرْعِ اللّهِ.
ولا أدَلَّ على ذلك مِنْ حكاية ذلك الرَّجُلِ الذي أقْبَلَ على عُمَرَ بنِ الخطابِ وهو واقِف بِعَرَفَة، فقال له:
جئتُ- يا أميرَ المؤمنين- من الكوفَةِ وَتَرَكْـتُ بها رجلاً يُمْلي المَصَاحِفَ عن ظَهْرِ قَلْبِهِ، فَغَضِبَ عمرُ غَضَباً قَلَّما غَضِبَ مِثْلَهُ، وَانتَفَخَ حَتَّى كادَ يَمْلأ ما بينَ شُعْبَتَي الَّرحل (11) وقال:
فما زالَ يَنْطَفِئُ وَيُسَرَّى عَنْهُ حَتَّى عادَ إلى حالِه، ثم قال: وَيْحَكَ، واللّهِ ما أعْلَمُ أنهُ بَقِيَ أحَدٌ مِنَ النَاسِ أحَقُّ بهذا الأمْرِ منْهُ، وَسَأحَدِّثكَ عن ذلك.
واستأنفَ عمرُ كلامَهُ فقال:
كان رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمُرُ ذاتَ ليلة عِنْدَ أبى بكرٍ ، ويتفاوَضانِ (13) في أمرِ المسلمين، وكُنْتُ معهما، ثُمَّ خَرَجَ رسولُ اللّهِ وَخَرَجْنا معه، فإذا رَجُلٌ قائِم يُصَلِّي بِالْمَسجِدِ لَمْ يَتَنبّهُ (14): فَوَقَفَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِعُ إليه، ثم الْتَفَتَ إلينا وقال:
مَنْ سَرَّهُ أنْ يَقْرَأ الْقُرانَ رَطْباً كما نزَلَ فَلْيَقْرَأهُ على قِراءَةِ ابْنِ أمِّ عَبْدٍ ...
فَقُلْتُ في نفسي: واللّهِ لأغدُوَنَّ عَلَى عَبْدِ اللّهِ بنِ مسعودٍ وَلأبشِّرَنَّهُ بِتَأمِينِ الَّرسولِ صلى الله عليه وسلم على دُعائِه، فَغدَوْتُ عَلَيْهِ فَبَشَّرْتُه، فَوَجَدْتُ أبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَني إلَيْه فَبَشَّرَه ...
ولا واللّهِ ما سابَقْتُ أبا بَكْر إلى خَيْرٍ قَطُّ إلاَّ سَبَقَني إلَيْهِ.
***
ولقد بَلَغ من عِلْمِ عبدِ اللّهِ بنِ مسعودٍ بكتابِ اللّهِ أنهُ كان يقولُ: واللّهِ الذي لا إلهَ غَيْرُه، ما نَزَلَتْ آيَة من كِتابِ الله إلاَّ وأنا أعلم أينَ نَزَلَتْ وأعلمُ فيما نَزَلَتْ، ولو أعْلَمُ أن أحَداً أعلَمُ مِنى بِكِتَابِ اللّهِ تَنَالُه الَمطِيُّ (15) لأتيْتُه.
***
لم يَكُنْ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ مُبَالِغاً فيما قالَه عَنْ نفسِه، فهذا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضىَ اللّهُ عنه يَلْقَى رَكْباً (16) في سَفَرٍ من أسْفَارِهِ، والليلُ مُخَيِّم يحجُبُ الرَّكْبَ بِظلامِهِ.
وكان في الرَّكْبِ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ ، فَأمَرَ عُمَرُ رجلاً أن يُنَادِيَهُمْ:
من أينَ القومُ؟ فأجابَه عبدُ اللّهِ: من الفجِّ العَمِيِق (17).
فقال عمرُ: أينَ تريدونَ؟ فقال عَبْدُ اللّهِ: البيتَ العَتيقَ.
فقال عمرُ: إنَّ فيهم عالماً... وأمرَ رجلاً فناداهُمْ:
تَبّاً له (18)… إنَّهُ يَتْلو بَعْضَ ما جاءَ به محمدٌ … وقاموا إليه وجَعَلوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وهو يَقْرأ حَتَّى بَلَغ منها ما شاءَ اللّهُ أَنْ يبلُغ، ثم انْصَرَفَ إِلى أصحَابِه والدَّمُ يسيلُ منه، فقالوا له:
هذا الذي خَشِينا عليك.
فقال:
واللّهِ ما كان أعداءُ اللّهِ أهوَنَ في عيني منهم الآنَ، وإنْ شِئْتُم لأُغَادينّهم(19)، بِمِثْلها غداً، قالوا: