بدأ الملك عبد العزيز بإرسال الطلبة للدراسة في الخارج على حساب الدولة عام 1346 هـ أي بعد ثلاث سنوات فقط من دخوله مكة المكرمة ، وبعد سنتين فقط من قيام مديرية المعارف التي لم تتجاوز صلاحياتها واختصاصاتها وخدماتها في حياته منطقة الحجاز ، وهذا يعني أن الابتعاث قد بدأ في وقت مبكر سبق توحيد الجزيرة من قبل المؤسس مما يدل على مقدار اهتمامه بالتعليم ورغبته الجادة في انتشاره على جميع مستوياته وعدم اكتفائه بما كان عليه في الحجاز خاصة .
فكانت بداية ابتعاث الطلاب السعوديين إلى مصر لاستكمال دراستهم الجامعية قبل تأسيس مدرسة تحضير البعثات – في السنة المذكورة حيث صدر قرار مجلس الشورى بناء على توجيه ملكي بإرسال أربعة عشر طالباً من الحجاز لإتمام دراستهم الجامعية في مصر : ستة طلاب من مكة المكرمة وثالثة من المدينة المنورة ، وثالثة من جدة ، واثنان من الطائف . وهؤلاء هم : أحمد قاضي ، عمر قاضي ، فؤاد وفا ، عبد الله ناظر ، أحمد العربي ، ولي الدين أسعد ، محمد شطا ، صالح الخطيب ، حمزة قابل ، عمر نصيف ، عبد المجيد متبولي ، محمد باحنشب ، عبد الله باحنشل ، وإبراهيم محي الدين حكيم .. وذلك للتخصص في دراسة القضاء الشرعي والتعليم الفني والزراعة والطب والتدريس وقد وضعت لذلك شروط الاختيار ، وحددت النفقات من قبل مجلس الشورى ومجلس المعارف .
ويقول الشيخ محمد طاهر الكردي : ( أول بعثة حكومية سافرت من مكة إلى مصر للتعليم كانت سنة 1346 هـ وذلك في أوائل الحكومة السعودية وكانت هذه البعثة مكونة من ثلاثين رجلاً ، من مكة ومن من أخرى من مناطق المملكة ) .
ويقول الأستاذ عبد الله بغدادي عن أول بعثة إلى خارج المملكة بعد تأسيس مدرسة تحضير البعثات وقبل دمجها مع المعهد العلمي : ( انطلقت منها أول بعثة تعليمية مؤهلة للجامعات خارج المملكة وتعرف ( ببعثة الأوائل ) والتي تخرجت في أول فوج من هذه المدرسة ، وعندما تخرجت الدفعة الأولى المكونة من ( عشرة طلاب بقيت عاماً نظراً لظروف الحرب الكونية الثانية ) ، وقد قام هؤلاء المتخرجون بالتدريس في المدرسة نفسها ، وعندما تخرج الفوج الثاني أرسلت أول بعثة من الفوجين مؤهلة تنطلق من المملكة إلى الجامعات المصرية وغيرها لدراسة مختلف العلوم والتخصصات ، والفوج الذي تخرج من هذه المدرسة والمكون من عشرة متخرجين أذكرهم وهم : حسن نصيف ، حسن شطا ، حامد هرساني ، شرف كاظم ، معتوق باحجري ، أحمد شطا ، سعيد آدم ، محمد نور الجوهري ، السيد علوي جفري ، السيد عمر عقيل ) .
ويقول محمد علي مغربي في حديثه عن التعليم في ملامح حياته الاجتماعية : تم إرسال أول بعثة علمية إلى مصر في أواخر الأربعينيات وكان من أعضاء هذه البعثة الأساتذة : أحمد العربي ، وعمر نصيف ، وعبد الله الطريقي ، وحسن المشاري ، وعبد الله ناظر ، وعبد المجيد متبولي ، والسيد علوي شطا وغيرهم .
ثم كانت البعثة الثانية إلى مصر سنة 1355 هـ لعشرة طلاب لتلقي العلوم الشرعية والعربية وأصول التربية والتعليم وفي هذا العام صدر نظام دقيق وضابط لشؤون الطلاب المبتعثين إلى الخارج من معيشة وعلاج ومراقبة لسلوكهم بواسطة إدارة خاصة أنشئت لهذا الغرض .
ثم كانت البعثة الثالثة عام 1361 هـ ، ثم المجموعة الرابعة عام 1363 هـ إلى مصر أيضاً ، ثم بعد ذلك توالت البعثات إلى أوروبا وأمريكا ، خصوصاً بعد أن تفجر النفط في المملكة ، ازدادت مواردها على إثر ذلك ، مما مكنها من التوسع في البعثات كماً وكنفاً حيث بلغ عددهم عام 1369 هـ طالبا مبتعثاً على حساب الحكومة للتخصص في علوم ومعارف متعددة .
وكان أفراد البعثة يصلون في كل عام إلى مصر ، ويقام لهم استقبال عظيم حين نزولهم من الباخرة في مبنى ( الكورنتينة ) وتلقى في الاستقبال الخطب الترحبيبة التي يجيب عليها الطلبة بالشكر ، ويتوافد الناس على بيوتهم مهنئين ومرحبين لعدة أيام .
وقد لقيت البعثة الأولى بعض المتاعب لاختلاف برامج الدراسة في مصر عنها في بلادهم ، ولكن البعض منهم صابر وصبر وتخطى العقبات ، ثم عاد إلى البلاد ليأخذ مكانه القيادي .
ويضيف الأستاذ عبد الله بغدادي : ( عندما بدأ في مدرسة تحضير البعثات والمعهد – أي بعد الدمج - تخريج دفعاتها أرسلت البعثة الأولى التي ضمت خريجي الدفعة الأولى والثانية في عام 1361 هـ إلى كل من الجامعة الأمريكية بلبنان ، وجامعة القاهرة والإسكندرية وكلية دار العلوم وكلية الشريعة ، أنشئ في كل من القاهرة والإسكندرية دار سميت دار البعثات السعودية ، وكانت أول دار سعودية تقام خارج المملكة لرعاية شؤون الطلاب والمبتعثين ، وكان يقيم فيها الطالب ويقدم له فيها المأكل والمشرب والملبس والعلاج والمصاريف الشخصية والدراسية ، ولم يكن الطالب مكلفاً بأي شيء سوى الانصراف للدراسة .
ولعلها أول ملحقية ثقافية تنشأ خارج المملكة ، ثم أرسل البعثة الثانية التي ضمت الدفعة الثالثة من خريجي تحضير البعثات والمعهد ، وأخيراً أرسل البعثة الثالثة من خريجي الدفعة الرابعة ، وبعدها بعدة شهور أحيلت خدماته ؛ وأي : صالح شطا إلى مجلس الشورى في أواخر ذي الحجة من عام 1364 هـ ) .
وكان قد عني المرحوم السيد محمد طاهر الدباغ بتأسيس مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة كما عني بتهيئة دار البعثات العلمية السعودية بالقاهرة ، وأسندت إدارتها إلى مديرين مشهود لهم بالكفاءة والإخلاص ، وأذكر على سبيل المثال : المربي القدير السيد ولي الدين أسعد - رحمه الله - ، وكانت هذه الدار تضم الطلبة المبتعثين حيث يتهيأ لهم فيها المسكن والطعام ، ويشرف السيد ولي الدين ومعاونوه على إلحاقهم بالمعاهد المختلفة ، ويهتم بشؤونهم الدراسية والمعاشية في آن واحد مما هيأ للطلبة الجو المناسب للدراسة المنظمة الجادة ، التي آتت أكل فيما بعد تأسيس دار للبعثات السعودية بالإسكندرية تولاه المرحوم الأستاذ صادق ماجد كردي ، وكان يرعى الطلبة السعوديين الذين يتلقون دراستهم في جامعة الإسكندرية . وتمثل هذه المدرسة بحق بداية عهد التعليم الحديث السائد الأولى لافتتاحها بتدريس علوم الكيمياء والفيزياء والأحياء والتاريخ والأوروبي واللغة الإنجليزية ، إلى جانب علوم الدين واللغة العربية ، وهذه المدرسة لا تزال قائمة حتى الآن باسم مدرسة الملك عبد العزيز الثانوية بمكة ، أو بالعزيزية الثانوية بمكة .
وكان أول مبنى لتحضير البعثات بمكة في حي ( المسفلة ) في عمارة البوقري بقرب بيوت علي محمود ، وحوش العشرة ، ثم انتقلت إلى القلعة بجبل هندي .
وكانت – هناك غرف داخلية – بالنسبة للطلبة القادمين في أنحاء المملكة الأخرى سواء من مدن الحجاز أو من مدن نجد أو من المناطق الأخرى في المملكة ، ونستطيع أن نقول للتاريخ إن مدرسة تحضير البعثات كانت هي المهد الذي كفل المبتعثين إلى الخارج في ذلك الوقت والذين تخصصوا في الدراسات العليا المختلفة كالطب والهندسة وغيرها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1. مسيرة التعليم في المملكة العربية السعودية والبلاد العربية ، سليمان بن عبد العزيز المهيزع .
2. صور من تراث مكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري ، الجزء الأول ، عبد الله محمد أبكر .
3. " لمحات عن التعليم وبداياته في المملكة " عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ ص 70 .
4. " التاريخ القويم " للكردي 6/ 525 .
5. " الانطلاقة التعليمية في المملكة " 1/ 197 – 212 .
6. " ماذا في الحجاز " أحمد محمد جمال ص 31 وص 72 ؛ و"لمحات في التعليم وبداياته في المملكة" عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ ص 79 – 80 ؛ و" ملامح الحياة الاجتماعية " .
7. " ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز" محمد علي مغربي ص 107 .
8. " الانطلاقة التعليمية في المملكة " 1/ 199 – 200 ؛ و" لمحات من التعليم " ص 40 – 73 .
9. " أعلام الحجاز " للمغربي 1 / 291 – 293 .
10. " التعليم في المملكة العربية السعودية " ، د . عبد الله محمد الزيد ص 15 .
11. " أعلام الحجاز " للمغربي . 1/ 292 .