وبعد
منذ القرون الأولى للإسلام، ومحاولات زرع الفتنة بين المسلمين، وتفريق جمعهم، وتشتيت وحدتهم، تصطدم دائما بنصوص قاطعة الدلالة ومفصلة البيان من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، تكشف زيغها، وتحذر من باطلها، فلا يجد أنصار الفتنة أمامهم إلا التشكيك في السنة، وقد تبين من كثرة ما رددوا تلك المزاعم أنها لا تخرج عن عدة شبهات لا تزيد ولا تنقص، ولكن الجديد دائما هو تقديم بعض الشبهات، وتأخير بعضها وفق حاجتهم إلى إثارة الفتنة بين المسلمين، فتارة يجادلون في حجية السنة، وتارة في حفظ السنة، وتارة يهاجمون أوثق مصنف للسنة وهو الإمام البخاري وكتابه الصحيح، وتارة يهاجمون أبا هريرة لكثرة مروياته، وتارة يشككون في أحاديث السحر والذبابة وموسى وملك الموت، وكل ما لا يوافق هواهم، ولا تقبله قلوبهم المريضة، وكلما أغلقنا دونهم بابا راحوا يفتحون غيره، ولما طال السجال في هذا المضمار، أرادوا أن يُخرجوا السنة من ساحة المواجهة بيننا وبينهم، فدلهم هواهم وشيطانهم إلى فكرة الاكتفاء بالقرآن.
ورغم أن محاولات إضرام الفتنة لا تنجح في النهاية، وربما ظن المدافع عن العقيدة الإسلامية أنه حقق انتصارا، وأطفأ نار الفتنة، إلا أن نفخ أعداء السنة في الرماد قد يعيد اشتعاله مرة أخرى، وكلما ضعفت الأمة، اشتد ساعد أعداء الإسلام، وكثرت سهمامهم، وهكذا تعود الكرة دواليك ودواليك، ولما كانت قصعة الأمة الإسلامية اليوم قد وقعت فريسة بين اللئام، فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الحياة، وكراهية الموت" .
إن تكالب الأمم اليوم على الإسلام، يسميه أعداء الدين تحالف الأمم، فقوات التحالف هي أدوات التكالب على الإسلام، ولبيان الإعجاز في لفظ الحديث نقول: لعلها المرة الوحيدة التي تتحالف الأمم من كل أفق، فقد انضمت جيوش من اليابان مع أستراليا إلى قوات من دول آسيا، مرورا بأوروبا، متمثلة في أسبانيا وإيطاليا وإنجلترا ورومانيا والمجر، وغيرها من البلدان، تتزعمها جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، معززة بالفكر الصهيوني، وخبراء من أحفاد القردة والخنازير، فهل هناك وصف أدق من تعبير النبي صلى الله عليه وسلم: "تداعى عليكم الأمم من كل أفق"؟
لقد سبق هذا التحالف الخارجي بالجيوش الجرارة، تكالب فكري ثقافي داخلي يقوده أتباع المستشرقين، المفتونون بالثقافة الغربية، المعتكفون في محراب الحرية الغربية، والعاشقون لحقوق الإنسان والديمقراطية، تلك المبادئ والمفاهيم التي سقطت أوراق التوت عنها، فرأينا حربا صليبية عصرية، تطبق مبادئ التتار والبربر في أفغانستان وجوانتناموا والعراق وفلسطين والشيشان والفلبين وكشمير.
وفي نفس الوقت ينشط فيه أدعياء الثقافة من أبناء جلدتنا والمحسوبين على الإسلام، للهجوم على السنة، ومحاولة إقصائها عن حلبة الدين الإسلامي، ولا يجدون غضاضة أن يدافعوا عن اكتمال القرآن واتساعه واستفاضته في بيان كل شيء، ومرافعاتهم عن القرآن ليست حبا في كتاب الله، ولكن هدفها الحقيقي هو ضرب السنة، ولن ينالوا من مسعاهم إلا الخزي في الدنيا، والهوان يوم القيامة، ولا يخفى أنهم سيهاجمون القرآن إذا حققوا أهدافهم الشيطانية، وقد فعلوا ولكن الله يحبط مكرهم دائما ويردهم على أعقابهم مدحورين.
الطعن في البخاري
يوجه الشيعة هجوما على الإمام البخاري، كيف لا وهو عمدة كتب أهل السنة، إلا أنك حين تطالع هجماتهم على البخاري تجدهم في ورطة فليس عندهم ما يقولونه عليه، وإذا ما أوردوا نقدا للصحيح تراهم يثيرون قضايا فقهية، أو يعلقون على آراء للبخاري، أما نقد الصحيح من الناحية الحديثية فهذه غاية لا يتطاولون إليها لعجزهم عن النيل من البخاري أو كتابه الصحيح، وكل الأحاديث التي ينقدونها في الصحيح تمس الفكر الشيعي، وهذا ما سنتناوله في الرد عليهم.
نقد الصحيح عند الشيعة هي:
1. النقد الأول: معلقات البخاري، وتراجم الكتب والأبواب، وآراؤه الفقهية فيها، ولن نلتفت لهذا النقد، فهو لا يمس البخاري ولا كتابه الصحيح، ولا يتعلق بصحة أحاديثه.
2. النقد الثاني: معارضة البخاري لفقه أبي حنيفة والحنفية وتناقضه كمحدّث مع أهل الرأي، حتى يمكن القول أن كتبه الفقهية جميعاً إنما جاءت ردّاً على أبي حنيفة، والرد على ذلك: أن البخاري حين صنف صحيحه لم يقل أو يعزم على تدوين مصنف فقهي حتى يقال إنه مع أبي حنيفة أو ضده، وهذا النقد أيضا يعد خارجا عن الهدف الذي من أجله دون البخاري الصحيح.
3. النقد الثالث: يتهمون البخاري أنه لم يخرج حديث عمار تقتله الفئة الباغية، مع أن الحديث مخرج مرتين في الصحيح الأول في كتاب الصلاة، والثاني في الجهاد والسير ونص الحديث: عن أبي سعيد الخدري حدثنا حتى أتى ذكر بناء المسجد، فقال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه، ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن" .
4. النقد الرابع: أخرج البخاري في صحيحه إسرائيليات مثل تفضيل موسى عليه السلام على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ورفض حديث: "من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب"، نقل حكايات لا تليق بمقام الانبياء والرسل عليهم السلام، ولا يخفى أن سبب اعتراضهم ليس لعلة في الحديث، وإنما لعلة في عقيدتهم يفضحها هذا الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا التواضع، ولا يريد منا أن نتعامل مع سائر الأمم من منطلق أن رسولنا أفضل من جميع الرسل، فهذه الفوقية تتصادم مع العبودية لله تعالى ودوام خشيته، والإخبات له، وأيضا يعلمنا القرآن الكريم : ( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)73 ، فإذا أقروا بهذا الحديث فعليهم أن يطبقوه على الأئمة، وهذا ما ينصدع له بنيان الشيعة الذي يجعل نور الأئمة من نور الله!!، بعد أن فرغنا من الرد على الشيعة، نشرع بتوفيق الله تعالى في بيان مكانة البخاري، تلك المكانة التي لا تصل إليها سهام الغلاة والمبطلين.
الرد على الشبهة: البخاري قمة تسمو فوق الشبهات
أولا: الدقة العلمية للإمام البخاري
كثير من الناس لا يعلمون أن تدوين البخاري لكتابه الصحيح سبقه أكثر من مائة وعشرين عملا في تدوين الحديث لغيره من الحفاظ، على رأسهم أيوب السختياني، وسفيان الثوري، وابن جريج، ومعمر بن راشد، وابن طهمان، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، ومالك بن أنس، وأبو حنيفة النعمان، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ورغم أن هؤلاء الأعلام بذلوا غاية جهدهم في تدوين المصنفات الحديثية، إلا أن الله تبارك وتعالى كتب لصحيح البخاري الريادة والقبول بين جمهور المسلمين، ولابد لنا من تحليل هذه الظاهرة ومعرفة الأسس التي سمى بها صحيح البخاري على غيره من المصادر.
فالحديث له عدة طرق في التدوين:-
1. التبويب الموضوعي: الذي يسهل على المسلم الوصول إلى الحديث الذي يتناول موضوعا معينا، وهذا يستوجب عمل تقسيم موضوعي يشمل الموضوعات التي تهم المسلم في دينه ودنياه.
2. ترتيب الأحاديث على المسانيد: بحيث يورد المصنف مرويات كل صحابي متتالية، يحاول من خلال هذا التبويب حصر مرويات كل صحابي ما أمكنه ذلك، وهذه الكتب تسمى المسانيد.
3. التصنيف حسب درجة الحديث: وهو نوع من التبويب حسب درجة الحديث، يندرج تحتها الصحاح، وكتب الأحاديث الموضوعة، وأيضا الضعيفة.
منهج البخاري في كتابه الصحيح:
1. رتب أحاديث كتابه الصحيح موضوعيا.
2. قصد الاقتصار في اختيار الأحاديث، وبالتالي لم يشترط استقصاء الأحاديث الواردة في الباب ، ولم يقصد جمع الأحاديث الصحيحةكلها كما سنذكره فيما بعد مؤكدا بأقواله هو.
3. اشترط صحة الحديث
4. اختار الرواة مشترطا العدالة.
5. اشترط اللقاء والسماع من كل راوي لشيخه في كل ما يختاره من أحاديث على اختلاف بين أهل العلم في هذا الشرط الأخير.
ثانيا: التقييم العلمي الحسابي لدقة البخاري في صحيحه
1. كيف اختار البخاري رجال صحيحه، وما هي مراتبهم؟
بعد أن حصرنا أسانيد صحيح البخاري، وترجمنا للرواة على مستوى أحاديث جوامع الكلم، قمنا بعمل الإحصائية التالية عن رجال صحيح البخاري،
عدد رواة صحيح البخاري في الأحاديث المسنده يبلغ 1675 موزعين كالتالي:
المرتبة الطبقة العدد النسبة المئوية %
الأولى عدد الصحابة 191 11
الثانية عدد الثقات الأثبات 255 15
الثالثة عدد الثقات 912 54
الرابعة الصدوق 05 12
الخامسة صدوق يخطئ 33 2
السادسة مقبول 62 4
السابعة مجهول الحال 0 0
الثامنة ضعيف 15 8
التاسعة مجهول 2 1
===========================================
عدد الرواة دون الصحابة = 1675 – 191 = 1484 راوي
عدد الرواة الثقات = 255 + 12 = 1167 راوي
نسبة الثقات في رجال الصحيح = 1167 / 1484 = 78.6 %
نسبة العدول في رجال الصحيح = (1675 – 17) / 1675 = 98.9 %
عدد الرواة المجروحين = 15 + 2 = 17 راوي
عدد المجروحين في رجال الصحيح = 17 / 1484 = 1.14 %
نسبة المجروحين إلى جملة رواة الصحيح = 17 / 1675 = 1.01 %
1. كم تبلغ دقة البخاري بالنسبة إلى عدد الأحاديث
يبلغ عدد أحاديث صحيح البخاري = 7032 حديث
تبلغ جملة مرويات المجروحين = 23 حديث
دقة البخاري في اختيار الأحاديث = 7023 – 23 / 7023 = 99.6 %
2.هل لأحاديث المجروحين في صحيح البخاري متابعات؟
بالنظر إلى أسانيد الأحاديث التي رواها المجروحون، وعددها 23 حديثا، نجد أن 21 حديثا منها أورد له البخاري طريقا آخر، رجاله عدول، وكأن البخاري يورد الحديث من الطريق القوي، ثم يضيف إليه إسنادا يضم الراوي المجروح لبيان انتفاء العلة أو الضعف في رواية الراوي المجروح، وهو بهذا يعزز مرتبة الراوي الضعيف، ولبيان أن الراوي الضعيف ليس معناه أن كل مروياته ضعيفة.
إذن لم يبق من 23 حديثا من أحاديث المجروحين سوى حديثين فقط ، وهما ليسا من أصول الكتاب.
وبذلك ترتفع دقة البخاري إلى (7023 – 2) / 7023 = 99.97 %
3. دراسة متن أحاديث المجروحين من رجال الصحيح
الراوي الأول: أبي بن العباس بن سهل بن سعد، ورتبته ضعيف، قال عنه علماء الجرح والتعديل الأقوال التالية:-
ابن حجر العسقلاني قال في التقريب : فيه ضعف
البخاري ليس بالقوي
الدارقطني ضعيف
الذهبي ضعفوه
أبو أحمد بن عدي الجرجاني يكتب حديثه، وهو فرد المتون والأسانيد
أبو بشر الدولابي ليس بالقوي
أبو جعفر العقيلي له أحاديث لا يتابع علي شيء منها
أبو حاتم بن حبان ذكره في الثقات
أحمد بن حنبل منكر الحديث
أحمد بن شعيب النسائي ليس بالقوي
يحيى بن معين ضعيف
وليس لأبي بن العباس في صحيح البخاري سوى حديث واحد بلا متابعة، ونص الحديث هو: حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر حدثنا معن بن عيسى حدثنا أبي بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حائطنا فرس يقال له اللحيف، قال أبو عبد الله وقال بعضهم اللخيف.
ليس لمتن هذا الحديث أي قيمة علمية تخص العقيدة أو العبادات أو المعاملات، أو الأخلاق والآداب، فهو يعرفنا اسم فرس للنبي صلى الله عليه وسلم، وربما لم يجد البخاري سوى هذا الحديث في باب اسم الفرس والحمار. وهو ليس من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بل هو منسوب للصحابة.
الراوي الثاني: أبو مروان يحيى بن أبي زكريا الغساني الواسطي، ورتبته ضعيف، قال عنه علماء الجرح والتعديل:
ابن حجر العسقلاني قال في التقريب : ضعيف
أبو حاتم الرازي شيخ ليس بالمشهور
أبو حاتم بن حبان كان ممن يروي عن الثقات المقلوبات حتى إذا سمعها مَن الحديث صناعته لم يشك أنها مقلوبة لا يجوز الرواية عنه لما أكثر من مخالفة الثقات فيما يروي عن الأثبات
أبو داود السجستاني ضعيف
يحيى بن معين لا أعرف حاله
وأبو مروان هذا له خمسة أحاديث رواها له البخاري، أربعة منها لها متابعات، ولم يبق إلا حديث واحد ليس لإسناده متابعات أخرى، ونصه: حدثني محمد بن حرب حدثنا يحيى بن أبي زكرياء الغساني عن هشام عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال ما تشيرون علي في قوم يسبون أهلي ما علمت عليهم من سوء قط وعن عروة قال لما أخبرت عائشة بالأمر قالت يا رسول الله أتأذن لي أن أنطلق إلى أهلي فأذن لها وأرسل معها الغلام وقال رجل من الأنصار سبحانك ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم". ومن المعلوم أن حادثة الإفك لها روايات متعددة كثيرة، وبالتالي فالحديث لا يقدم ولا يؤخر في قيمة صحيح البخاري ؛ لأن البخاري أورد حديث الإفك من طرق أخرى كثيرة في أعلى درجات الصحة ، وبتفصيل أكثر مما هو موجود في تلك الرواية الموجزة ، فكأنه لم يوردها إلا بعد أن اطمأن إلى صحتها من الطرق الأخرى ، والله أعلم .
وإذا كانت دقة البخاري قد بلغت 99،97 % قياسا على أحاديث الثقات، وتقلص أحاديث المجروحين من 23 حديثا إلى حديثين فقط، بعد وجود متابعات لعدد 21 حديث منهم، فإن دقة البخاري ترتفع إلى 100 % إذا نظرنا إلى اعتبار القيمة العلمية لمرويات المجروحين في صحيح البخاري.
ثالثا: شرط البخاري في الإسناد
لقد وضع البخاري شرطا لاختيار أسانيد كتابه الصحيح، حيث لم يشترط المعاصرة بين الراوي وشيخه فحسب، وإنما اختار اللقاء والسماع، وذلك في الأسانيد المروية بصيغة تحتمل السماع، بينما اشترط مسلم المعاصرة كحد أدنى مع إمكانية اللقاء، ولا شك أن شرط البخاري يضمن أعلى مستويات الدقة في نقل الحديث.
رابعا: تحقيق هدف البخاري من صحيحه
لقد اختار البخاري اسما لكتابه الصحيح يعبر عن هدفه من تصنيفه الجامع، وهذا الاسم هو: الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، وقد انتخب أحاديثه من بين مائة ألف حديث صحيح كان يحفظها، ضمن ستمائة ألف حديث. إلا أنه لم يقصد حصر الصحيح من الأحاديث، وقد قال البخاري: ما أدخلت في كتابي الصحيح إلا ما صح، وتركت من الصحيح حتى لا يطول".
كان الاعتبار الأول الذي يحكم تبويبه لكتابه الصحيح، هو تيسير وصول المسلم إلى الحديث الصحيح الذي يريده ليعمل به، وقد انعقدت نيته لتصنيف كتابه الصحيح عندما سمع شيخه إسحاق بن راهويه يقول لتلاميذه وبينهم البخاري: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ولما شرع في تصنيف صحيحه، اختار أعلى الرواة مرتبة، ثم اشترط في السند شرطا أساسيا، وهو سماع الراوي من شيخه، ثم قسم كتابه ليس على الكتب الفقهية كما في معظم كتب السنن، وإنما أضاف إلى التبويب الفقهي مجموعة من الأبواب منها: التوحيد والمغازي والسير، والجهاد، الأخلاق والآداب، كما أضاف كتابا يعد من أكبر كتبه وهو كتاب تفسير القرآن الكريم، كما أنه وضع عددا من الأبواب ولم يدرج تحتها أحاديث حيث لم يجد فيما يحفظ حديثا محققا لشروطه حتى يضمه إلى الصحيح.
وقد تتبع الدارقطني أحاديث صحيح البخاري، ووجه نقدا لثمانين حديثا ليست على شرط البخاري، وذلك في كتاب الإلزامات والتتبع، إلا أن ابن حجر درس أقوال الدارقطني، وناقشها في هدي الساري، وصل إلى نتيجة صواب البخاري في كل منها ، علما بأن انتقادات الدارقطني – رحمه الله – في مجملها لا تتعلق بصحة الحديث ، وإنما يعترض على إيراده لها لأنها ليست على شرطه ، فيما يراه الدارقطني ، وقد رد ابن حجر على ذلك كما ذكرنا .
1. ذكر البخاري أنه كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، وقد أدخل في الصحيح ما يتجاوز سبعة آلاف حديث فقط، ويقول وتركت من الصحيح حتى لا يطول، يقول الشيعة أن البخاري ضيع بضعا وتسعين ألف حديث صحيح، والجواب على ذلك: إن ما تركه البخاري ليست متونا صحيحة، وإنما هي طرق رواية وأسانيد يحفظها تبلغ مائة ألف طريق لنفس المتون، والدليل على ذلك تصرف البخاري نفسه، فقد روى في صحيحه 2362 حديث، ذكرها فيما يزيد عن سبعة آلاف موضع، فالحديث الواحد في البخاري يتكرر ثلاث مرات في المتوسط، ولو كان البخاري يحفظ مائة ألف متن صحيح ليس فيها تكرار، فكيف يصنف كتابا جامعا شاملا يتضمن فقط 2 % مما يحفظ.
2. رب قائل يقول إن البخاري يحفظ مائة ألف متن ليس فيها تكرارات، وأنه ما أثبتها في الصحيح خشية الإطالة، والجواب على ذلك: أنه لو خشي الإطالة ما كرر أحاديث الصحيح، وكان الأولى أن يذكر سبعة آلاف متن صحيح من المائة ألف التي يحفظها، وبهذا تتضاعف فائدة كتابه ثلاثة مرات، عن أن يكرر المتن الواحد ثلاثة مرات.
3. ويصمم القائل على رأيه، فنقول له: لو كان رأيك صوابا فبرر لنا لم اكتفى بتدوين 2 % مما يحفظ في الجامع الصحيح، وما الذي منعه من تدوين باقي ما يحفظ وهو 98 % حسب زعمكم في مصنفات أخرى؟ خاصة وقد ترك لنا عددا من المصنفات في موضوعات أقل أهمية من الأحاديث التي يحفظها. أيحرص على كتابة: "قرة العينين برفع اليدين، والقراءة خلف الإمام، والتاريخ الكبير، والتاريخ الصغير، والضعفاء الصغير،،،" .
4. ونزيد القائل بيانا فنقول: إن تلاميذ البخاري لا يحصون كثرة من المحدثين، فلماذا لم يمل عليهم ما حفظه وضاع حسب مزاعم الشيعة، ولماذا لم يسجل لنا أحدهم ما كان يحفظه شيخه البخاري من الأحاديث الصحيحة.
5. لماذا صنف الإمام مسلم وهو ممن تلقى عن البخاري صحيحه ويحصر نفسه في 60 % مما رواه البخاري في صحيحه، أما كان من الأجدر أن يصنف فيما يحفظه عن البخاري وهو صحيح، ولم يدونه البخاري في صحيحه.
6. لماذا صنف الترمذي أيضا كتابه السنن، ودون فيه نسبة تزيد على 40 % من أحاديثه أخرجها البخاري في صحيحه، ولا تخلوا صفحة من كتاب سنن الترمذي دون أن يرجع فيها لسؤال البخاري عن حديث أو رجل، فلماذا أعرض عما يحفظه البخاري من أحاديث صحيحة ولم يدرجها في صحيحة؟
ويمكن الرد على تلك الشبهة بما يلي :
1. إن مراد علماء الحديث عن عدد ما يحفظونه من أحاديث ليس متونا جديدة، وإنما هي طرق رواية لنفس المتون، وبالتالي فإن كثيرا من هذه الأعداد مكرر بكثرة الطرق دون المتون.
2. أنه خاف السآمة والملل وطول الكتاب وصعوبة حفظه وكبر حجمه فاكتفى بما أورد اعتمادا على جهود إخوانه من العلماء الآخريين التي وقف عليها يقينا مثل الموطأ والمسند لشيخه الإمام أحمد وغيرهما .
3. أن له آراء في الحكم على الأحاديث أورد بعضها الترمذي وأبو داود .
وفي النهاية لم يكن مطلوبا منه جمع السنة كلها في كتاب واحد فذلك أمر يضيق عنه جهد فرد واحد ، والله أعلم.